وجهات نظر

إبراهيم شاهزاده .. رحلة في الإعلام والسياسة بالأردن

إبراهيم شاهزاده ..  رحلة في الإعلام والسياسة بالأردن

غيّب الموت، أخيراً، الإعلامي الأردني إبراهيم شاهزاده (1937-2025)، الذي كان أول من أطلّ على الأردنيين (في 1968) قارئاً نشرة الأخبار، وظلّ في الإذاعة والتلفزيون يقلّب أدوراً في المهمّات والإدارات، حتى أصبح مديراً عامّاً لمؤسّسة شارك في تأسيسها، وظلّ وفياً لها، وبقي محترماً محتشماً، عفيفاً غير متطلّب، رغم قلّة مالِه، وشّح تقاعده الذي أنهكه أواخر سني عمره. وهو مثل نخب عربية وغير عربية، أعطت (وبنت في) الأردن الذي آمنت به، من دون سؤالٍ عن الهُويَّة، وقد غاب في زمن يصعد فيه السؤال عن تعريف الأردنيين، وهُويَّتهم الوطنية، والبحث عن سرديّة لها. وأجمل سرديّة للأردنيين وهُويَّة تؤطّرهم هي الدولة الكافلة والراعية والحامية، الدولة التي تملك أقلّ المقدرات، وفيها أفضل القدرات والخبرة والحكمة في عبور الأزمات، الدولة التي نادى كثيرون، بل توقّعوا، ذهابها مبكّراً مع زمن الفتن، وبقيت حاضرة.

أمر الملك الراحل الحسين بن طلال (من فراش المرض في مستشفى مايو كلينك في الولايات المتحدة أواخر أيامه في يناير/ كانون الثاني 1999) بتعيين إبراهيم شاهزاده مديراً عاماً لمؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، في مرحلة مفصلية من تاريخ الأردن الحديث. وكان الرجل واحداً من أربعة أشخاص خارج المجموعة المرافقة للملك في المستشفى الأميركي، ممّن علموا بتغيير ولاية العهد قبل شهرَين من إعلانه. تلك الرغبة الملكية ينظر إليها شاهزاده على أنها "اختيار لمهمّة أديتها على أكمل وجه".

"كانت الإذاعة الأردنية مقرّاً لاجتماعات القيادات السياسية، وفي مقدّمهم الملك الحسين الذي كان يزورها أسبوعياً"

ولد في الزرقاء العام 1937 لأسرة من أصل بنجابي في شمالي الهند. وكان والده قد تعرّف إلى والدته في الناصرة، وتزوّجها، فدرس شاهزاده في مدرسة الزرقاء الثانوية حتى الصف الرابع، وحين انتهى دور قوة الحدود التي عمل فيها والده، انتقلت الأسرة في أعقاب النكبة إلى عمّان. وبعد الثانوية، ذهب لدراسة الهندسة في ألمانيا العام 1957، وأصيب هناك بحادث اضطرّه إلى العودة، وقادته المصادفة إلى زيارة أخيه الذي كان يعمل في إذاعة هنا عمّان، حيث التقى سرّي عويضة المسؤول عنها، وكانت هناك مجموعة لفحص مذيعين، فعرض عليه عويضة التقدّم للعمل، فقبل والتحق مع زملائه، ومنهم سمير مطاوع وإبراهيم الذهبي وغالب الحديدي وإسحق المشيني وسليمان المشيني وعرفات حجازي وعبد الغني القصّاب وليلى المدفعي وهند التونسي وإنعام المفتي وغيرهم.

كانت خمسينيّات القرن الماضي العصر الذهبي للإذاعة، فشهدت المنطقة ثورة يوليو (1952) في مصر، وتداعيات حلف بغداد، ومحاولة انقلاب الضبّاط الأحرار في الأردن، وحكومة سليمان النابلسي، وانقلاب العراق عام 1958. وكانت الأحداث تلقي بظلالها على الخطاب الإعلامي، وكانت الإذاعة التي اقترح الراحل هزّاع المجالي تأسيسها تفتتح صباحها بـ"هنا عمّان حي العرب"، بصوت يونس البحري، الذي اشتهر بمقولة أخرى "هنا برلين حي العرب". وفي 1959، اندمجت مع إذاعة القدس باسم "إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية"، وضمّت الكادر الفنّي والإعلامي الموجود في الإذاعتين، وتلك قصّة أخرى في تاريخ الوحدة الأردنية الفلسطينية.

روى شاهزاده في مقابلة لكاتب هذه السطور عام 2009، تفاصيل مثيرة في تاريخ الإذاعة الأردنية، وسرد تاريخ مديريها. كان أول مدير عام للإذاعة عبد المنعم الرفاعي وبقي ستة أشهر، ثم وصفي التلّ، وكان مدير الأخبار محمود الشريف ومدير البرامج صلاح أبو زيد ومساعد مدير الأخبار بسام عازر. كانت الإذاعة تختصر حالة الأردن، فقد تحوّلت من منبر إعلامي إلى مقرّ لاجتماعات القيادات السياسية، وفي مقدّمهم الملك الحسين، الذي كان يزور الإذاعة أسبوعياً. ويقول "كنّا نعيش أوج الحملات الإعلامية المتبادلة مع (صوت العرب) تحديداً، وكان من يردّ على أحمد سعيد في مصر أمين أبو الشعر وطارق مصاروة في إذاعة عمّان... اللذَين كانا يتناوبان على كتابة التعليق السياسي وقراءته"، كما قال شاهزاده، الذي بقي في الإذاعة إلى قبيل اغتيال رئيس الوزراء في حينه هزّاع المجالي صباح 29 أغسطس/ آب 1960، إذ انتُدِب لتأسيس إذاعة عربية في منطقة الأهواز في إيران، ويذكر هنا أن شاه إيران زار الأردن وطلب الاستعانة بالأردن لفتح هذه القناة، فذهب إلى إيران حيث عمل ودرس، والتحق بجامعة جندي شابور في الأهواز لدراسة الأدب المقارن.

"اندمجت الإذاعة الاردنية مع إذاعة القدس في 1959 باسم "إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية"، محطة في تاريخ الوحدة الأردنية الفلسطينية"

في الأهواز (عاصمة إقليم خوزستان أو ما يعرف بمشيخة عرب ستان)، قبيل استيلاء محمد رضا بهلوي عليها وقتل شيخها خزعل، كانت الحياة بالنسبة إليه ممتعةً، وبقي فيها ما بين 1960 و1964، ويؤكّد أن "الذهاب إلى الأهواز كان فرصةً للتغيير والابتعاد عن المناكفات بين مديرين في الإذاعة الأردنية آنذاك".

لم يقصُر الرجل عمله على الإذاعة هناك، فقد دخل في تنظيم جبهة تحرير عربستان، وكان المنسّق بين الجبهة وإذاعة صوت العرب في القاهرة. يقول: "كانت المعلومات تُوفّر لعبد الهادي البكّار مقدّم البرنامج في القاهرة، وكنتُ أزور الكويت وأحمل المعلومات وأنقلها إلى السفارة المصرية المحاذية للسفارة الإيرانية، وكنت أتخفّى بزيٍّ كويتي عندما أذهب إلى السفارة المصرية". لم يطل البقاء كثيراً في العمل مع الجبهة لأن "أحد زملائي وشى بي لجهاز السافاك الإيراني، فاستدعيت في منتصف ذات ليلة، وبعد التحقيق لم يتمكّنوا من أي إفادة مني، فأُبلغت بضرورة مغادرة إيران خلال 48 ساعة، ووضعوني في القطار مع حرس. وفي طهران وُضعْتُ بفندق، ثمّ نُقلت من مطار طهران إلى بيروت لتكون العودة إلى عمّان". حاول العودة إلى العمل في الإذاعة الأردنية، فاتصل بمديرها عبد الحميد ياسين، ولمّا تأخّر في الردّ، تقدّم بطلب لهيئة الإذاعة البريطانية من طريق الراحل أديب شبلي الملحق الثقافي في السفارة البريطانية. وبسرعة أجيب على طلبه بالموافقة، فانتقل إلى بيت خبرة آخر، بصحبة أصدقاء وإعلاميين منهم الطيب صالح ومديحة المدفعي ونديم ناصر وصلاح نيازي وماهر عثمان وسامي حدّاد وجميل عازر وسمير مطاوع وغيرهم.

زار الملك الحسين، في مايو/ أيار 1967، بريطانيا، كان معه الراحل عبد الحميد شرف وزيراً للإعلام، وكانت هيئة الإذاعة البريطانية كلّفت شاهزاده تغطية زيارة الملك إذاعياً، ونقل أحداثها: "عند انتهاء الزيارة سألني عبد الحميد شرف: كم واحداً أنتم من الأردن؟ وطلب أن يجتمع معنا كلنا، وفي أثناء اللقاء قال إن هناك محطة تلفزيون جديد ستنشأ، وحثّنا على العودة للعمل بها"... كان شاهزاده أول من استجاب، لكن حرب 1967 حالت دون العودة، وبقي إلى نهاية العام حتى تمكّن من العودة، والالتحاق بالتلفزيون الأردني قبل ولادته بأربعة أشهر، وفي 28 إبريل/ نيسان 1968 (يوم افتتاح التلفزيون)، كان شاهزاده أول من قرأ الأخبار في شاشة التلفزيون الأردني، وبقي وحيداً حتى التحق به بعد ستة أشهر سمير مطاوع وسامي حداد: "كنّا نتناوب مع زملاء آخرين على تقديم نشرات الأخبار والبرامج السياسية".

وفي 1973 أصبح رئيساً للتبادل الإخباري والعمليات الخاصّة، وفي 1984 أصبح مديراً لدائرة الأخبار، ثمّ مديراً للإذاعة في 1988، ثمّ مديراً للتلفزيون في 1990 حتى 1997 عندما تنازل عن إدارته، نتيجة "خطأ في تقدير نيّات بعضهم"، ما سبّب إبعاده. يروي: "كنت مديراً للتلفزيون في 1994، واتصل بي أمين عام مجلس الوزراء آنذاك سعد الدين جمعة، وبارك لي انتقالي المقبل إلى منصب رفيع"، وهو منصب لم يأتِ، فتقدّم بطلب إحالته على التقاعد عام 1997، ليعود بعد عام في حكومة فايز الطراونة مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، استجابةً لرغبة الملك الحسين، وبقي حتى 1999.

"لم يقتصر عمل شاهزادة على الإذاعة في الأهواز، فانتمى إلى تنظيم جبهة تحرير عربستان، ونسّق بين الجبهة وإذاعة صوت العرب في القاهرة"

حين يتذكّر الأزمنة الصعبة مندوباً إخبارياً ومذيعاً، يتذكّر أنه توجّه مرّة إلى تغطية غارة إسرائيلية إبّان حروب الاستنزاف على عين حزير (أول طريق وادي شعيب في الأردن وهي معسكر للفدائيين). وفي أثناء وصولهم، شنّ الطيران الإسرائيلي غارةً، وما إن حاول السائق الفرار حتى فاجأته قذيفة بترت ساقيه "وأمّا المصور فقد فاجأته صلية على الكاميرا مرّت من أمام عينيه، وبقيت أنا واقفاً تحت رحمة الله".

ويتذكر أيضاً: "في أثناء وجودنا في الجولان في حرب 1973، مراسلاً عسكرياً بمعية الراحل خالد هجهوج المجالي، وكنت قريباً من الموت... زارنا مرّة الملك حسين ومعه الأمير رعد. كان زخّ الرصاص الإسرائيلي أشبه بوابل مطر بدا مع وصوله. في البداية كنت مرعوباً، ولمّا رأيتُ دماء الشهيد فريد الشيشاني ازددتُ صلابةً". النشرات الإخبارية الطويلة التي يذكرها كثيرة، والمواقف الصعبة في رأيه كان أهيبها "عندما كنت مديراً عاماً للتلفزيون عام 1999، وقرأت الرسالة التي وجّهها الملك الحسين إلى شقيقه الأمير الحسن، وأعلن فيها نقل ولاية العهد إلى الأمير عبد الله يومها... وقد وصلت إليّ الرسالة بخطّ اليد".

ظلّ شاهزاده يرى أن أحبّ مكان على قلبه التلفزيون والإذاعة معاً: "ولدتُ في الإذاعة وحبوتُ في التلفزيون إلى أن ترأسّته، والإذاعة وجدتها مثل الأم". وفي حياته قصص وحوادث كثيرة مهمّة عن الأردن المعاصر، ترك جزءاً منها في كتاب صغير نشره عام 2014 "من دفتر الذكريات". وكان مرتاحاً لأن أحداً من أولاده لم يرثه في الإعلام: "فمهنة الإعلام بالرغم من عذوبتها إلا أنها مهنة المشقّات".

العربي الجديد