وجهات نظر

الرسالة المحمدية وحماية البيئة

الرسالة المحمدية وحماية البيئة

بعد مرور خمسة عشر قرنًا على مولد النبي – صلى الله عليه وسلم –، ما تزال رسالته الخاتمة تمثل مرجعًا عالميًا في تنظيم علاقة الإنسان بخالقه وبالكون من حوله؛ وإذا كانت التحديات البيئية اليوم مثل التغير المناخي والتلوث وفقدان الموارد تشكّل تهديدًا وجوديًا للبشرية، فإن الرسالة المحمدية تقدم مبادئ أخلاقية وتشريعية يمكن أن تسهم في بناء وعي بيئي معاصر يقوم على الرحمة والعدالة والمسؤولية.

في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، تأكيد على مبدأ الاستخلاف؛ وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، نهي صريح عن الفساد. وفي السنة النبوية، نجد أحاديث عديدة تحث على احترام البيئة، منها قوله – صلى الله عليه وسلم –: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا»

وهذا يرسّخ قيمة الغرس والحفاظ على الطبيعة حتى في أحلك الظروف؛ فهذه المبادئ الشرعية تعكس رؤية مبكرة للتنمية المستدامة، إذ ترتكز على الاستخدام الرشيد للموارد وتحقيق التوازن بين حاجات الإنسان وحماية حقوق الأجيال القادمة.

تقوم الرسالة المحمدية على قيم بيئية واضحة، من أبرزها الرحمة التي تشمل كل الكائنات؛ والعدالة التي تمنع احتكار الموارد أو تلويثها؛ والاستدامة التي تُترجم في النهي عن الإسراف والتبذير؛ والمسؤولية التي تجعل الإنسان مؤتمنًا على البيئة أمام الله.

هذه المبادئ يمكن ربطها مباشرة بأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أقرتها الأمم المتحدة، حيث يعكس الهدف السادس المتعلق بالمياه النظيفة والصرف الصحي ما ورد في أحكام الإسلام حول حق الجميع في المياه ومنع تلويثها؛ بينما يلتقي الهدف الثالث عشر الخاص بالعمل المناخي مع النهي عن الفساد في الأرض والتوجيه القرآني نحو إعمارها؛ كما ينسجم الهدف الخامس عشر المتعلق بالحياة في البر مع التشجيع النبوي على غرس الأشجار وحماية الموارد الطبيعية؛ في حين أن مبدأ الاستدامة الإسلامي يوازي مضمون الهدف الثاني عشر حول أنماط الاستهلاك والإنتاج المسؤولة.

ومن الجدير بالذكر أن التاريخ الإسلامي يزخر بأمثلة حيّة على تطبيق هذه المبادئ البيئية، منها:
– نظام "الحمى" الذي وضعه النبي – صلى الله عليه وسلم – لحماية المراعي ومنع الرعي الجائر، كما في "حمى النقيع".
– الأوقاف البيئية مثل وقف الآبار والعيون والمزارع، والتي خُصصت للمنفعة العامة والحفاظ على الموارد، وهو ما يعكس وعيًا بيئيًا مؤسسيًا في الحضارة الإسلامية.
من جهة أخرى، فإن القانون الدولي البيئي الحديث يستند إلى مبادئ أساسية مثل مبدأ الوقاية، ومبدأ "الملوِّث يدفع"، ومبدأ العدالة بين الأجيال، ومبدأ التعاون الدولي.
وهذه المبادئ تجد لها جذورًا في الفقه الإسلامي؛ فقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" (حديث نبوي شريف، صحيح ابن ماجه، رقم: 1909) تماثل مبدأ الوقاية، وتحميل الملوث تبعات فعله ينسجم مع قاعدة "الضرر يزال"؛ أما العدالة بين الأجيال فهي امتداد لمفهوم الأمانة التي يتحملها الإنسان في الأرض، والتعاون الدولي يقابل الدعوة الإسلامية للتكافل والتعاون على البر والتقوى.

إن العالم اليوم يواجه أزمة بيئية غير مسبوقة؛ والتغير المناخي صورة من صور الفساد في الأرض؛ والعدالة المناخية امتداد طبيعي لمبدأ الشريعة في رفع الظلم عن الضعفاء. كما أن حماية المياه والغابات والهواء ترتبط بمقاصد الشريعة في حفظ النفس والنسل والمال، بما يجعل الفقه الإسلامي إطارًا صالحًا للمساهمة في تطوير القوانين والسياسات البيئية الحديثة على المستويين الوطني والدولي.

لقد كانت الرسالة المحمدية مشروعًا حضاريًا متكاملًا، لا مجرد دعوة روحية؛ مشروعًا يسعى لإعمار الأرض وحمايتها. وبعد 1500 سنة، يمكن استلهام مبادئها لإعادة صياغة علاقة الإنسان بالبيئة على أسس من الرحمة والعدالة والاستدامة، في انسجام مع أهداف التنمية المستدامة ومبادئ القانون الدولي البيئي. واستحضار هذا البعد الإسلامي يعزز من قدرة المجتمعات الإسلامية والعالمية على مواجهة تحديات العصر، ويفتح الباب نحو فقه بيئي معاصر يجمع بين القيم الدينية والالتزامات القانونية الدولية من أجل حماية الكوكب وضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

*المحامي الدكتور علي سليم الحموري
اكاديمي- متخصص في القانون الدولي البيئي
رئيس جمعية استشراف المستقبل للحقوق البيئية والعدالة المناخية