وجهات نظر

المواطنة والهوية الأردنية

المواطنة والهوية الأردنية


أحداث السابع من أكتوبر عصفت بالفرضيات التي قامت عليها عملية التحديث السياسي في الأردن. لم يكن أحد ليتوقع المدى الذي ستبلغه التطورات والتداعيات بعد ذلك اليوم المجنون. أسابيع وربما أشهر قليلة وتنتهي حفلة الانتقام الإسرائيلي، ويجلس الجميع على طاولة المفاوضات لإبرام صفقة.

إلى هذا الحد يمكن استيعاب آثار "الطوفان" في الشارع الأردني. لكن ما حدث كان أسوأ من أي سيناريو متوقع؛ حرب طويلة، واحتلال وإبادة وشهداء بعشرات الآلاف، وجبهات جديدة فتحت، غيرت وجه الشرق الأوسط كما توعد نتنياهو.

مع كل يوم للحرب المستعرة على غزة، كان الشعور بالهوية يبدو أكثر وضوحا في الشارع الأردني. مبدأ الوحدة الوطنية لم يكن كافيا لاستيعاب المشاعر الصارخة. وشعار الهوية الوطنية الجامعة، لم يكن له الأثر الكبير في الميدان، بعدما علت الميادين بشعار منافس؛"كل الأردن حمساوية".

عمليا حدث تحول أو قل انتقال جوهري من مرحلة التضامن الشعبي مع غزة، إلى التعبير المنفرد عن الهوية بوصفها سلاحا في وجه العدوان، وما ينظر إليه على أنه عجز في مواجهة إسرائيل.

لم تقدر تنظيمات مثل الجماعة المحظورة، وحزب جبهة العمل الإسلامي، وقيادات حركة حماس في الخارج، خطورة سلوكها وخطابها في الشارع الأردني، وتداعيات تأجيج الشعور بالهوية على حساب القيم الوطنية المشتركة. وحين بلغ الاستفزاز حد التحرش بالرموز الوطنية والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وقع ما يشبه الصدام على منصات التواصل الاجتماعي، مما استدعى تدخلا خشنا من مؤسسات الدولة لضبط الإيقاع عدة مرات.

الانتخابات أعطت رسالة مقلقة، لكن الدولة قررت استيعابها دون ردات فعل انفعالية، ثم تكشفت فصول القضية المعروفة بخلايا الإخوان لترفع منسوب القلق الرسمي لمعدلات قياسية غير مسبوقة في العقود الأخيرة.

لم تصمد فرضية المواطنة وسياساتها المنشودة أمام مشاعر الهوية. فسادت الرغبة الجامحة بفتح جبهة إسناد ولو على حساب أمن واستقرار الأردن. أقسى ما رافق هذه المرحلة تكريس انطباع خاطئ بأن مصالح الأردن تتناقض مع حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.

يساجل البعض بالقول إن ما شهدناه ونشهده من خطاب هوياتي هو رد فعل مؤقت على المجازر الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة. هذا أمر منطقي ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار عن مقاربة المسألة الوطنية، فشوارع العالم ضجت وانتفضت ضد حرب الإبادة الإسرائيلية. لايمكن لشخص سوي أن يقف صامتا أمام هول المجازر المرتكبة،وقد كان لهذا التحرك العالمي أثره الكبير والمتمثل في إصدار أمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق المجرم نتنياهو ووزير حربه.

لكن لم يكن لأحد أن يتوقع أيضا أن يصل رد الفعل في الأردن حد تخوين الدولة والتشكيك بموقفها، وترويج خطاب هوياتي لا يرى في الأردن غير ساحة لحرب التحرير مهما كان الثمن.

هذا الخطاب هو الذي زرع الشك في قلوب الكثيرين بجدوى سياسات المواطنة والهوية الوطنية الجامعة، وهو ما يقتضي حسب اعتقادي فتح حوار نخب في الأردن للبحث في كيفية الخروج من هذا المأزق ومعالجة آثاره السلبية قبل أن تستفحل على المدى الطويل.

وربما تبرز حاجة ملحة للنظر في المفاهيم والفرضيات التي قامت عليها عملية التحديث السياسي، ومراجعتها للتأكد من أننا لم نخطئ التقدير. وقبل ذلك ينبغي الاعتراف بأن طوفان السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب مفتوحة على سيناريوهات مجهولة كان له تأثير عميق على البيئة السياسية والاجتماعية في الأردن، ولابد من رصده بشكل دقيق، لنتمكن من توقع المسار في المستقبل. ذلك يتطلب شجاعة وصراحة عالية المستوى من جميع الأطراف، والمفتاح أسئلة جهورية مثل: ماذا يعني لنا الأردن كأفراد ومواطنين؟ هل المواطنة بالضرورة تعني الهوية الواحدة؟