وجهات نظر

الأردن بين تصعيدين: الجنوب السوري والضفة الغربية

الأردن بين تصعيدين: الجنوب السوري والضفة الغربية


مع التطورات الأخيرة في المنطقة، يجد الأردن نفسه اليوم محصورا بين تصعيدين متزامنين خطيرين تتقاطع فيهما الحسابات السياسية والأمنية: تصعيد على حدوده الشمالية بفعل المستجدات في الجنوب السوري، وتصعيد على حدوده الغربية نتيجة الإجراءات الإسرائيلية التصعيدية والتهديدات بضم الضفة الغربية.

تُظهر الحسابات الإستراتيجية لإسرائيل في جنوب غرب سورية أنها تسعى لتثبيت منطقة عازلة منزوعة السلاح على طول حدود الجولان. وقد ساهم فشل الحكومة السورية في التوصل إلى صيغة توافقية خلال الأشهر الماضية في استخدام ورقة "حماية الدروز" كأداة ضغط لتعطيل أي إعادة تموضع عسكري لصالح دمشق، ما حافظ مرحليًا على حالة تشرذم في الأراضي الجنوبية. غير أن هذه الإستراتيجية تحمل في طياتها خطرا بتأجيج التوترات الطائفية وإطلاق شرارة صراع طويل الأمد.

إستراتيجية تفتيت جنوب غرب سورية تفتح المجال لمناطق غير خاضعة للسيطرة، ما يجعلها أرضًا خصبة للمناورة والاستغلال من قبل جماعات جهادية أو قوى غير حكومية. وكما هو معلوم، فإن انهيار منظومة الحكم في سورية، مع دخول البلاد مرحلة ما بعد الأسد، أوجد فراغات أمنية سرعان ما ملأتها ميليشيات متصارعة، أبرزها جماعات سنية متطرفة تتشارك في الأيديولوجيا والممارسة مع شبكات تنشط في استخدام الفوضى السورية كقاعدة خلفية لتجنيد، تدريب، ونقل عناصر عملياتية إلى مناطق قريبة من الحدود. وهو ما يزيد من احتمال تحول هذه المناطق إلى ساحات امتداد لصراعات طائفية أو منصات لشن هجمات على مصالح حيوية في المنطقة. الأمر الذي يجعل الأردن في مواجهة مباشرة مع تداعيات ما يجري في سورية على كافة الأصعدة.

أما على صعيد الضفة الغربية، فإن المقاربة الإسرائيلية لا تختلف كثيرًا. الحديث المتزايد عن إعادة رسم الحدود مع الأردن وفق رؤية أمنية إسرائيلية، يتزامن مع خطوات عملية على الأرض تهدف إلى خلق منطقة عازلة، ومع نوايا معلنة لضم أجزاء من الضفة الغربية. هذا السيناريو لا يقل خطورة عمّا يجري في الجنوب السوري، وينذر بتداعيات تمس الأردن على المستويات الجغرافية والديموغرافية والأمنية وحتى السياسية.

التحرك الإسرائيلي باتجاه إنشاء "مناطق آمنة" على طول الحدود مع كل من سورية والأردن، يشير إلى توجه نحو تغييرات جذرية في البنية الجغرافية والسياسية، عبر الإبقاء على هذه المناطق تحت سيطرة قوى غير معادية لإسرائيل أو على الأقل محايدة. وهو ما يجعل طبيعة هذا التصعيد مختلفة نوعيًا عن أي مرحلة سابقة، سواء من حيث المنهج أو النتائج المحتملة.

في هذه اللحظة، يجد الأردن نفسه في قلب شبكة معقدة من التوترات الإقليمية. فهو يتعرض لضغوط غير مباشرة نتيجة الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في جنوب سورية، إلى جانب النشاط الإيراني المتصاعد في منطقتي دمشق والأنبار، فضلًا عن تهديد جهادي متنامٍ، قد يتخذ أشكالًا مرنة تتغلغل عبر شبكات عابرة للحدود، تتلاقى أيديولوجيا، وترى في الأردن أرضا بديلة أو امتدادًا لنفوذها.

في ضوء ذلك، يصبح الاستقرار الداخلي هو التحدي الأهم، بل العنوان الرئيس للمرحلة المقبلة في الأردن. وهذا يتطلب نقلة نوعية في الخطاب الحكومي، وأسلوب معالجة الأزمات الداخلية بروح جديدة وغير تقليدية. رفع الوعي المجتمعي بحجم المخاطر المحيطة ضروري، لكنه يجب أن يترافق مع مواجهة أسباب الاحتقان المحلي، سواء عبر معالجة حقيقية للأوضاع الاقتصادية والتخفيف على المواطن وعدم إنهاكه، أو محاربة التطرف، أو الحد من مظاهر الإحباط. تشكيل انطباعات إيجابية داخلية هو من أبرز أدوات تعزيز المناعة الوطنية لمواجهة ارتدادات الخارج.

وعليه، لا بد من التفاتة جادة إلى الداخل الأردني، تجعل من تمتين الجبهة الداخلية أولوية مطلقة، من خلال خطوات عملية واضحة يشعر المواطن بتأثيرها المباشر سواء على المستوى المعيشي الخدماتي أو السياسي الاجتماعي، لضمان احتواء ومنع انتقال تداعيات التوترات الإقليمية.