وجهات نظر

المتلاعبون بالعقول

المتلاعبون بالعقول

في زمن تختلط فيه الشعارات البراقة بالسياسات المظلمة، تتكشف أمامنا حقيقة بعض القوى الدولية التي نصبت نفسها حامية لحقوق الإنسان، فيما هي في الواقع شريك صريح في دعم الاحتلال وجرائمه. هذه القوى ترفع شعارات العدالة والحرية، لكنها تسكت -بل وتصفق- حين يتعلق الأمر بدماء الفلسطينيين التي تُسفَك يومياً بآلة القتل الإسرائيلية، تدعم الاحتلال بالسلاح والمال والتغطية السياسية، ثم تتحدث عن "السلام" و"الاستقرار"، في تناقض يفضح جوهر سياساتها الاستعمارية.

جرائم الاحتلال التي لم تعد خافية على أحد ولا يمكن معها لأي قوة إعلامية أو سياسية قلب الحق باطلاً أو تغيير قناعات الشعوب التي تكونت نتيجة ما تشاهده عبر عشرات السنين من الجرائم التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ من قصف متواصل يطال البيوت والمستشفيات والمدارس، ومن حصار يخنق الحياة اليومية ويمنع الغذاء والدواء عن المدنيين، ومن اغتيالات واعتقالات عشوائية بحق الشباب والأطفال، ومن محاولات تهجير ممنهجة واقتلاع من الجذور، ومن توسيع للمستوطنات لالتهام ما تبقى من الأراضي فلسطينية، ورغم كل ذلك، يواصل الاحتلال الادعاء بأنه الضحية، في حين أنّ الحقيقة تقول إنّه الجلاد، والأدهى أنّ بعض العواصم الغربية تبرر هذه الجرائم، وتستخدم خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" غطاءً لاستباحة الدم الفلسطيني.

في هذا السياق يبرز المأزوم نتنياهو، أسير أوهام السيطرة والانتصار ليروج لقدرته على إخضاع المنطقة وفرض مشروعه التوسعي، متجاهلا حقائق التاريخ التي تروي قصة مختلفة تماما؛ فهذه الأرض مرّت عليها إمبراطوريات جبارة من الروم والفرس والمغول والتتار وغيرهم ومورست عليها كل أنواع التنكيل، ومع ذلك زالت تلك الإمبراطويات وبقي أصحاب الأرض.. الشعب الفلسطيني اليوم الذي يعي تماما هذه الحقيقة، يواجه الاحتلال بكل ما يملك من إصرار، ويبرهن أن اقتلاع شعب من أرضه أمر مستحيل، مهما بلغت وحشية الاحتلال.

ورغم ذلك، لا يتوقف نتنياهو وزمرته المتطرفة عن بيع الوهم لشعبه، حيث يعد بالسيطرة على المنطقة، بينما جيشه عاجز عن إخضاع بقعة صغيرة محاصرة منذ سنوات، فإذا كان هذا الجيش بكل ترسانته وجرائمه التي يندى لها الجبين لم ينجح في إخضاع غزة أو إطفاء جذوة المقاومة الكامنة في الشعب الفلسطيني الرافض للاحتلال، فكيف سيحتل دولا بكاملها كما يتوهم! .. هذا الجنون لا يعكس قوة، بل أزمة داخلية عميقة يحاول نتنياهو إخفاءها عبر تصدير العداء وصناعة الأوهام.

الحقيقة التي يحاول المتلاعبون بالعقول حجبها، أن شعوب المنطقة ليست شعوب حرب ولا أمة عنف كما يصورها الإعلام الغربي المتحيز، بل شعوب أنهكتها الصراعات وتطمح إلى حياة كريمة بسلام واستقرار، وأن الاحتلال وحده هو من يصر على سفك الدماء وبث الخراب، وكلما ازداد دعم بعض القوى الغربية له، انكشفت صورتها أكثر أمام شعوب العالم التي لم تعد تنخدع بالشعارات الزائفة.

في المحصلة؛ إن فضح جرائم الاحتلال والتواطؤ الدولي في تغطيتها، واجب أخلاقي وسياسي في آن، فالمعركة اليوم لم تعد على الأرض، بل امتدت لتشمل الوعي الإنساني العالمي، بين الرواية الزائفة للجلاد وداعميه ورواية الضحية التي تثبتها الوقائع على الارض وتشهد عليها اغلبية شعوب وامم الاض، في حين يبقى الرهان الأكبر على أن الحقيقة مهما حاولوا تشويهها، ستظل أقوى من كل أدوات التلاعب بالعقول.