وجهات نظر

احترام المواعيد الدستورية للموازنة العامة

احترام المواعيد الدستورية للموازنة العامة


بدأ مجلس النواب مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2026 في سياق مختلف عن الأعوام الماضية، إذ تشير المؤشرات هذه المرة إلى أن الموازنة يمكن أن تُقر من مجلسي النواب والأعيان، ويتم التصديق عليها بإرادة ملكية سامية، لتدخل حيز النفاذ قبل بداية السنة المالية الجديدة، على نحو يعزز مبدأ "سنوية الموازنة العامة" الذي قررته المادة (112) من الدستور باشتراط تقديم مشروع قانون الموازنة العامة إلى مجلس الأمة قبل ابتداء السنة المالية بشهر واحد على الأقل.
فالالتزام بالمواعيد الدستورية للتشريع المالي يشكل تحولا بارزا في الأردن، بعد أن اعتادت الموازنات العامة في سنوات سابقة أن تُقر بعد انقضاء جزء من السنة المالية، رغم نفاذها بأثر رجعي من الأول من كانون الثاني، مما أبقى الأسابيع الأولى من كل عام بلا موازنة مُقرة تحكم الإنفاق فعليا.

وفي هذا الإطار تبرز الأوامر المالية بوصفها أداة استثنائية يصدرها وزير المالية عند تأخر إقرار قانون الموازنة، بهدف ضمان صرف الأموال من المخصصات المعتمدة في قانون الموازنة العامة، بما يتيح للوزارات والدوائر الحكومية الاستمرار في القيام بمهام عملها. وهذه الأوامر بطبيعتها مؤقتة ومرحلية، تستند الحكومة في إصدارها إلى المادة (113) من الدستور التي تنص على أنه "إذا لم يتيسر إقرار قانون الموازنة العامة قبل ابتداء السنة المالية الجديدة يستمر الإنفاق باعتمادات شهرية بنسبة 1/12 لكل شهر من موازنة السنة السابقة". فالأصل العام في الموازنات السنوية هو الإقرار المسبق، والصرف المؤقت بأوامر مالية هو وسيلة انتقالية لا يجوز أن تتخذ طابع الديمومة.

غير أن التطبيق العملي في السنوات الماضية أظهر اتساعا ملحوظا في اللجوء إلى هذا الاستثناء، إذ اعتادت الدولة إقرار الموازنة بعد أشهر من بدء السنة المالية الجديدة، الأمر الذي جعل الإنفاق المؤقت إجراءً تتجدد الحاجة إليه في مطلع كل عام. فموازنتا عامَي 2024 و2023 لم تُصدّق إلا في شهر آذار، ورغم ذلك عُدّتا نافذتين من بداية السنة المالية. أما موازنة 2021 فقد جاء إقرارها في شهر أيار، ودخل قانونها حيز النفاذ بعد ثلاثين يوماً من نشره في الجريدة الرسمية، لا مع مطلع السنة، مما أثار تساؤلات حول طبيعة الإنفاق الذي جرى خلال تلك الفترة في ظل غياب موازنة نافذة فعلياً.

وفي أسوأ الأحوال يمكن تقبّل صدور أمر مالي واحد قبل إقرار مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2026، بما يضمن الحد الأدنى من استمرارية المرافق العامة إلى حين نفاذ القانون الجديد. أما التوسع في هذه الممارسة، وتمديد العمل بالأوامر المالية لأشهر متتالية، فيتعارض مع غاية المشرّع الدستوري الذي أراد للمادة (113) أن تبقى مخرجاً استثنائياً محدود الزمن، لا أسلوبا موازيا لإدارة المالية العامة. وما جرى في عام 2021، حين أُقرت الموازنة السنوية في شهر أيار ونفذ قانونها بعد ثلاثين يوماً من نشره، يقدم مثالا واضحا على تجاوز الحد الأدنى الذي يمكن أن تبرره اعتبارات الضرورة.

وتزداد أهمية الالتزام بالمواعيد الدستورية لإقرار قانون الموازنة العامة عند النظر إلى المبدأ العام الذي يحكم سريان القوانين عموما. فالمادة (93/2) من الدستور تنص على أن "يسري مفعول القانون بإصداره من جانب الملك ومرور ثلاثين يوما على نشره في الجريدة الرسمية إلا إذا ورد نص خاص في القانون على أن يسري مفعوله من تاريخ آخر".

فالقاعدة الدستورية العامة تقضي بأن يبدأ نفاذ القانون من تاريخ نشره وبأثر مستقبلي، في حين يُعد السريان الرجعي استثناء محدودا لا يفترض اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى. ولهذا ينبغي أن يبقى استخدامه محصورا، وألا يتحول إلى ممارسة تشريعية معتادة. غير أن تأخر إقرار الموازنات العامة في السنوات الماضية جعل هذا النهج شائعاً في التطبيق العملي، على نحو يتنافى مع متطلبات اليقين القانوني واستقرار المراكز المالية.

إن التجارب البرلمانية في الدول الديمقراطية تجمع على مبادئ أساسية في هذا المجال؛ أهمها أن الموازنة ينبغي أن تُقر قبل بدء السنة المالية قدر الإمكان بوصفها الترخيص السياسي والمالي للحكومة. كما أن الصيغ الاستثنائية للصرف المؤقت تُقبل فقط كحلول انتقالية محدودة المدة والغاية، ولا يجوز أن تتحول إلى بديل عملي عن الموازنة المقررة. إضافة إلى أن الرقابة البرلمانية تفقد جزءا من فعاليتها عندما يسبق التنفيذ المالي الإقرار التشريعي أو يتجاوزه، حتى وإن منح القانون لاحقاً أثراً رجعياً لذلك التنفيذ.

ومن هنا تأتي أهمية المناقشة المبكرة لموازنة 2026. فإذا ما أُقرت ضمن سنتها الدستورية، قبل بدء السنة المالية الجديدة، فسيكون ذلك تصويبا لمسار تشريعي ظل لسنوات يميل نحو الاستثناء أكثر مما يستند إلى القاعدة العامة، وسيُسجَّل للحكومة الحالية أنها أدارت التوقيتين المالي والتشريعي بكفاءة حالت دون الحاجة إلى إصدار أوامر مالية إلا في أضيق الحدود، وعززت مبدأ سنوية الموازنة، وقلّصت نطاق سريان القوانين بأثر رجعي.

* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية