وجهات نظر

العقوبات الاجتماعية البديلة… مسار أكثر فاعلية للعدالة في الأردن

العقوبات الاجتماعية البديلة… مسار أكثر فاعلية للعدالة في الأردن


تتزايد في السنوات الأخيرة النقاشات العامة حول إصلاح منظومة العدالة في الأردن، وتركّز بشكل خاص على الكيفية التي يمكن من خلالها التعامل مع بعض القضايا التي قد لا تستدعي بالضرورة عقوبة السجن، فقدتكررت تصريحات العديد من المسؤولين عن الضغوط التي تواجهها مراكز الإصلاح والتأهيل، مشيرين إلى أنها تعمل فوق طاقتها الاستيعابية، وهذا واقع لا يعكس بأصوله ارتفاعًا في معدلات الجريمة الخطرة، ولا هو دلالة على تراجع في مستوى الأمن، بل هو فعلياً يقع بمضمون السؤال المهم التالي: هل يجب أن يبقى السجن هو الخيار الاجباري لكل الجنح والجرائم البسيطة أم أن الوقت قد حان لتوسيع استخدام العقوبات البديلة التي تضمن المحاسبة وتحقق مصلحة المجتمع على حد سواء؟
لقد خطا الأردن بالفعل خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، فقد بدأت المحاكم خلال السنوات الماضية بتطبيق عقوبات اجتماعية بديلة في بعض القضايا البسيطة، ويبرهن هذا النهج على امتلاك المنظومة القضائية للأدوات اللازمة لمعالجة مستويات مختلفة من السلوك المخالف، بما يضمن المحاسبة دون الاعتماد الكامل على الحبس.

من الناحية الاقتصادية فان الدافع وراء تفعيل هذا النهج واضح، فمراكز الإصلاح تحتاج إلى موارد متنوعة ضخمة لتؤدي دورها بكفاءة، من كوادر بشرية للإدارة والحراسةوخدمات صحية وخدمات إطعام وبرامج إعادة تأهيل وصيانة بنية تحتية، وأنظمة أمنية للمراقبة وعندما تستقبل هذه المراكز أفرادًا ممن يمكن معالجة قضاياهم بوسائل غير سالبة للحرية، تصبح القدرة التشغيلية أقل كفاءة، ويصبح التركيز على من يحتاجون فعلًا إلى الاحتجاز أكثر صعوبة، ومن هنا، فإن تحويل أصحاب الاحكام الخفيفة نحو عقوبات مجتمعية يتيح لمراكز الإصلاح والتأهيل استخدام مواردها بطريقة أكثر فاعلية، وتوجيهها نحو الوقاية، والإصلاح، والخدمات الاجتماعية التي تعزز مناعة المجتمع.

ولا يقتصر الأمر على الاقتصاد وحده؛ فالأبعاد الاجتماعية والسلوكية للعقوبة البديلة قد تكون أعمق أثرًا،فالسجن، حتى لو كان لفترة قصيرة، يمكن أن يسبب اضطرابًا في حياة الفرد العملية، ويؤثر على استقرار أسرته جراء غياب معيلها، ويقلل من ارتباطه بمحيطه الاجتماعي، وهي عناصر أساسية لنجاح إعادة الاندماج لاحقًا، وتبين الدراسات السلوكية أن فرص التغيير الإيجابي تكون أكبر حين يبقى الشخص ضمن بيئة داعمة، وحين يستطيع معالجة الضرر الذي تسبب به بطريقة بنّاءة.

وعلى المستوى العملي، يمكن للعقوبات الاجتماعية البديلة أن تأخذ أشكالًا متعددة تتناسب مع طبيعة المخالفة واحتياجات المجتمع المحلي في آن واحد،مثل دعم البلديات في حملات النظافة، والمساهمة في صيانة الحدائق والمرافق العامة اومساعدة دور المسنين أو المراكز المجتمعية التي تعاني من نقص الكادر. وفي بعض الحالات، قد تكون العقوبة أكثر ارتباطًا بطبيعة المخالفة، كإلزام المخالف بالمساعدة في إصلاح ما أفسده أو دعم التوعية المتعلقة بالمجال الذي ارتكب فيه المخالفة، كما يمكن للبرامج السلوكية الموجّهة أن تساعد المخالفين على تطوير مهارات اتخاذ القرار وإدارة الضغوط أو معالجة التأثيرات الاجتماعية التي أدت إلى السلوك المخالف.

أما الجانب الأهم فيتعلق بكيفية مواءمة هذه العقوبات مع أولويات المجتمع، إذ لا يتم اختيار العقوبة بصورة عشوائية، بل بناءً على تقييم مزدوج: قدرات الفرد من جهة، واحتياجات الجهات المحلية من جهة أخرى، وبإمكان البلديات والمؤسسات العامة تحديد المهام التي تحتاج دعمًا إضافيًا بشكل دوري، مما يجعل العقوبة وسيلة لتوجيه الجهد الفردي نحو خدمة فعلية يحتاجها الناس، وبذلك تتحول العقوبة إلى آلية إصلاحية تحقق منفعة عامة وتُبقي الفرد جزءًا من نسيجه الاجتماعي.

ويتوافق هذا التوجه بطبيعته مع النسيج الاجتماعي الأردني، القائم على مفاهيم الصلح، والوساطة، وتحمل المسؤولية المجتمعية، فدمج هذه القيم المتجذرة في سياسة العدالة الحديثة يعزّز من مصداقية النظام، ولا ينتقص منها، فبدلًا من عزل الفرد عن أسرته ومجتمعه، تُبقيه العقوبات البديلة جزءًا من نسيجه الاجتماعي، مع ضمان أن تكون تبعات فعله متناسبة وهادفة.

وفي النهاية، فإن الهدف من السياسة الجنائية لا يقتصر على معاقبة الفعل المخالف، بل يتعداه إلى تقوية المجتمع نفسه، فاعتماد العقوبات الاجتماعية البديلة يمكّن الأردن من الحفاظ على سيادة القانون وتعزيز الإصلاح والكفاءة الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. وهو يعكس فلسفة عدلية قائمة على العدالة والتناسب والإيمان بقدرة الإنسان على التعلم والتغيير، ومن خلال هذا النهج، يستطيع الأردن مواصلة بناء منظومة عدالة تلبي احتياجات الحاضر وتستعد لتحديات

المستقبل.

باحث في الاقتصاد والسياسات السلوكية