وجهات نظر

إنّهُ قرارٌ… وثمنُهُ عُمرٌ

إنّهُ قرارٌ… وثمنُهُ عُمرٌ

القرار ليس مجرد لحظة عابرة نتجاوزها لاحقاً؛ بل قد يكون نقطة تحوّل تُعيد تشكيل مسار الحياة بالكامل، وتهبُ الإنسان فرصًا أو تسرق منه سنوات كان يمكن أن يعيشها بشكل أفضل، أو يستثمرها في ما يستحق. فمعظم خيارات البشر لا تُقاس بنتائجها المباشرة فقط، بل بأثرها العميق الممتد عبر الزمن، لأن الإنسان حين يتخذ قرارا ويختار، لا يختار لليوم ولا للغد فقط، بل لمستقبله كله.

إن اتخاذ قرار غير مدروس يشبه تماماً أن يسلك المرء طريقاً طويلاً مظلماً دون خريطة، فيجد نفسه بعد سنوات في مكان لم يكن يقصده ولا يشبه آماله ولا طموحاته، ويكتشف أن الوقت الذي استنزفه في المحاولة والخطأ كان يمكن أن يكون رأس مالٍ يمكّنه من النمو والرضا وتحقيق الذات. وحين يتأمل الإنسان التجارب التي مرّ بها، يدرك أن أخطر القرارات ليست تلك التي تسبب ألماً سريعاً وواضحاً، بل التي تبني تدريجياً واقعاً لا يشبهه، وتزرع فيه إحساساً متراكماً بالندم، لأن الخسائر المادية يمكن تعويضها، أما الخسائر الزمنية فلا طريق لإعادتها. لذلك كانت الحكمة دائماً تقول إن التريث فضيلة، وإن القرار قبل اتخاذه ملك لصاحبه، وبعد اتخاذه يصبح هو مَن يملك صاحبه.

ورغم أن البشر يعيشون وسط ضغوط متلاحقة، وتوقعات اجتماعية، وخيارات مربكة، إلا أن المسؤولية الأولى والأخيرة في اتخاذ القرار تبقى للفرد نفسه، فهو وحده الذي يتحمل كلفة الاختيار. فالقرارات المصيرية مثل اختيار التخصص، أو شريك الحياة، أو الوظيفة، أو مغادرة بيئة معينة، كلها خيارات تحمل في طياتها امتداداً زمنياً يتجاوز اللحظة الراهنة. والخطأ فيها لا يظهر فوراً، بل يتكشّف على مراحل، حيث يبدأ الإنسان يشعر أنه يسير ضد فطرته، أو بعيداً عن إمكاناته، أو في طريق يستهلكه دون أن يمنحه أي مكسب حقيقي.

وفي كثير من الأحيان تُتخذ القرارات تحت تأثير الانفعال، أو بدافع الخوف من الرفض أو الفشل، أو حرصاً على إرضاء الآخرين، أو استعجالاً للهروب من ضغط، لكن هذه الدوافع الآنية تُصبح لاحقاً سلاسل تقيده لسنوات. وربما تكون أسوأ نتائج القرار الخاطئ ليست المتاعب اليومية، بل تلك المشاعر الصامتة التي يكتشفها الإنسان فجأة: شعور بأنه أضاع فرصة كان يمكن أن تغيّر حياته، أو أنه استسلم لضغوط لم يكن يجب أن يخضع لها، أو أنه تأخر كثيراً في إدراك ما يستحقه فعلاً. هنا فقط يظهر الثمن الحقيقي، ليس مالاً ولا علاقة ولا وظيفة، بل جزءاً من العمر كان يمكن أن يكون أكثر امتلاءً.

ومع ذلك، فإن الوعي بقيمة العمر ليس دعوة للخوف من اتخاذ القرارات، ولا سبباً للشلل أو التردد أو تسويف وتأجيل القرارات المصيرية؛ بل هو تذكير بأن الخيارات ينبغي أن تُبنى على بصيرة حقيقية لا على ردود أفعال عابرة. فالقرار الصائب لا يعني القرار المثالي، بل القرار الذي ينسجم مع الإنسان ومع ما يتوقعه من نفسه ومن حياته، ويستند إلى معرفة واضحة بالنتائج المحتملة. لذلك فإن التوقف للتفكير، والاستماع للنصيحة دون أن تصبح بديلاً عن الإرادة، وطرح الأسئلة الصحيحة قبل الإقدام على أي خطوة، كلها خطوات تمنح الإنسان حماية من الندم وتعيد الزمن إلى صفّه بدلاً من أن يتحول إلى خصم.

والأهم من ذلك أن الخطأ عندما يكلف الأعمار ليس نهاية الطريق، فالندم الذي يكشف الحقيقة يمكن أن يصبح بداية جديدة أكثر نضجاً، إذا امتلك الإنسان الشجاعة ليعيد توجيه مساره، ويتحرر مما لا يشبهه، ويعيد بناء حياته من جديد. فالعمر قد لا يعود، لكن ما تبقى منه قابل ليُعاش كما يجب وكما نُحب، وقيمة القرار ليست في مرور الوقت بعده، بل في قدرة الإنسان على استعادة نفسه، واختيار الطريق الذي يستحقه فعلاً. عزيزي القارئ ما زال في العمر بقية ومادام يجدُر بنا العيش فالأجدر بنا أن نتعلم من أخطائنا ونُصوب طريقنا ونعيش ما تبقى من أعمارنا بما يرضينا ويرضي خالقنا.