محركات السلوك الإنساني في العادات الاجتماعية
في ندوة جماعة عمّان لحوارات المستقبل
في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتشابك فيه الرموز والسلوكيات، تبرز الحاجة إلى وقفة تأملية تعيد الاعتبار للجوهر الإنساني في الممارسات اليومية.
من هنا، جاءت ندوة نظّمتها جماعة عمّان لحوارات المستقبل بقيادة الأستاذ بلال حسن التل، بعنوان “محركات السلوك الإنساني في العادات الاجتماعية”، واستضافت العلامة الدكتور مجد الدين خمش، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية والخبير والباحث الإستراتيجي المعروف.
مبادرة لحماية التماسك الاجتماعي
لم تكن هذه الندوة حدثًا فكريًا منعزلًا، بل جزءًا من مبادرة وطنية أطلقتها الجماعة تحت عنوان “حماية التماسك الاجتماعي”، امتدادًا لوثيقة أُصدرت عام 2015، تهدف إلى ترشيد العادات الاجتماعية التي باتت تثقل كاهل الأفراد نفسيًا وماديًا.
جاءت استجابة لتفاقم مظاهر التفاخر والبذخ في المناسبات العامة، مثل الأعراس والعزاء وحفلات التخرج، وما ترتب عليها من أعباء مالية واجتماعية.
ومن أبرز توصياتها العملية:
* تقنين عدد المدعوين لتخفيف التكاليف.
* الامتناع عن المشاركة الرسمية في جاهات الأعراس.
* تشجيع الأعراس الجماعية كبديل اقتصادي واجتماعي.
* إنشاء صندوق وطني لدعم الزواج.
* تقليص مظاهر الضيافة في المآتم لتقتصر على أهل المتوفى فقط.
وقد لاقت المبادرة دعمًا رسميًا وشعبيًا، واعتُبرت خطوة جريئة نحو تعزيز قيم الاعتدال والتكافل في المجتمع الأردني.
وفي الاتجاه نفسه، أطلق وزير الداخلية مازن الفراية مبادرة مشابهة لمحاربة مظاهر البذخ التي تثقل كاهل المجتمع.
تحليل علمي للسلوك الاجتماعي
قدّم الدكتور مجد الدين خمش قراءة علمية معمّقة في دوافع السلوك الإنساني، موضحًا أن العادات الاجتماعية لا تنبع من فراغ، بل تتشكّل من تفاعل معقد بين دوافع داخلية وخارجية، تتأثر بالثقافة، والبيئة، والضغوط الجماعية.
أبرز محاور التحليل:
* الدوافع الداخلية: الحاجة للقبول، الانتماء، وإثبات الذات.
* الدوافع الخارجية: تأثير البيئة، والثقافة، والدين، والقانون.
* العادة والتكرار: تحول السلوك المتكرر إلى نمط اجتماعي راسخ.
* الضغط الجماعي: تبنّي سلوكيات لا تعكس قناعات الفرد.
* الرمزية الاجتماعية: منح السلوك شرعية جماعية ودلالة رمزية.
وأوضح الدكتور خمش أن كثيرًا من مظاهر التفاخر الاجتماعي ليست سوى استجابات لحاجات نفسية غير واعية، مثل الرغبة في القبول أو إثبات الذات و الحصول على الجاه و المال و المناصب و المكانه الاجتماعية.
تأملات شخصية
لقد فتحت لي هذه الندوة آفاقًا جديدة لأتأمل في العلاقة بين العمليات النفسية الداخلية والسلوك الاجتماعي الظاهري، فاستنتجت أن:
* السلوك الاجتماعي ليس مجرد عادة، بل نتاج تفاعل بين العقل، الشعور، العاطفة، والانفعال.
* الدماغ هو البنية الفيزيائية، أما العقل فهو العمليات التي تجري داخله كالتفكير والإدراك والتخيل.
* الانفعال حالة مؤقتة، بينما العاطفة وجدانية مستمرة، والشعور هو وعي الإنسان بهذه الحالة.
* كثير من العادات تُمارس لأن المجتمع يتوقعها، لا لأننا نؤمن بها.
* التغيير يبدأ من الفرد وينتقل إلى الجماعة، والوعي هو المفتاح لإعادة تشكيل العادات.
من التحليل إلى العلاج الجذري
من وجهة نظري، فإن تحليل المشكلات الاجتماعية أو الوطنية من منظور علم النفس وعلم الاجتماع هو الطريق الأمثل لحلّها من الجذور، لا من السطح.
فنحن لا نستطيع القضاء على المشكلة بمجرّد التنظير أو بعقد الاجتماعات، بل علينا أن نتعامل معها كما يتعامل الطبيب مع المرض: لا يكتفي بمسكنٍ للأعراض، بل يبحث عن الفيروس أو الجرثومة ليقضي عليها بالدواء المناسب.
وبالقياس، فإن علاج العادات الاجتماعية الخاطئة لا يكون بالمنع أو التنديد فقط، بل باستبدالها بسلوكات حميدة تحقق الهدف الإنساني ذاته ولكن بطرق راقية ومشروعة.
فمن يسعى إلى تحقيق ذاته بالجاه أو المال أو المنصب، لا يُلام على طموحه، لكن عليه أن يسلك طريقًا نبيلًا وإنسانيًا يخدم المجتمع لا أن يرهقه.
فبدلًا من إقامة حفلات التفاخر والبذخ، يمكن للفرد أن يبني مدرسة، أو مصنعًا، أو مركزًا ثقافيًا يشغّل الناس وينفعهم.
بدلًا من التباهي في الجاهات، يمكن أن ينشئ برامج توعية مجانية للأطفال والشباب.
فصرف المال في وجوه الخير والعلم والإنتاج هو الذي يمنح الإنسان مكانته الاجتماعية الحقيقية، لا المظاهر الزائلة.
عندها فقط يمكن القول إن الطموح أصبح قيمة إنسانية سامية، وأن من يسعى للمنصب أو الثراء صار جديرًا به، لأنه ربط النجاح بالمسؤولية.
ومن أراد تجارة رابحة فليجعلها تجارة مع الله ومع الناس — تجارة إنسانية تنفع وتبني، لا استعراضًا فارغًا يُبدّد ولا يُثمر.
من الوعي إلى المبادرة
ما ميّز هذه الندوة هو ربطها بين التحليل العلمي والمبادرة العملية.
فقد قدّمت نموذجًا وطنيًا لإعادة تشكيل العادات الاجتماعية على أساس من الوعي، والتكافل، والاعتدال.
إن إعادة النظر في السلوكيات لا تعني رفضها، بل فهمها وتفكيكها وإعادة بنائها بما يتناسب مع الهوية والواقع.
إنّ هذه الندوة لم تكن مجرد نقاش، بل انخراطًا في مشروع وطني يسعى إلى إعادة الاعتبار للقيم الأصيلة، وإلى بناء مجتمع أكثر توازنًا وإنسانية.
وقد ساهمت هذه التجربة في تعميق فهمي للسلوك الإنساني، وربطت بين علم النفس والاجتماع، وبين التأمل الشخصي والمبادرة المجتمعية.
وأدعو من هذا المنبر إلى تبنّي هذا النوع من الحوار، الذي لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسعى إلى تغييره، وإلى إعادة تشكيله على أسس من الوعي، والصدق، والكرامة.
في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتشابك فيه الرموز والسلوكيات، تبرز الحاجة إلى وقفة تأملية تعيد الاعتبار للجوهر الإنساني في الممارسات اليومية.
من هنا، جاءت ندوة نظّمتها جماعة عمّان لحوارات المستقبل بقيادة الأستاذ بلال حسن التل، بعنوان “محركات السلوك الإنساني في العادات الاجتماعية”، واستضافت العلامة الدكتور مجد الدين خمش، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية والخبير والباحث الإستراتيجي المعروف.
مبادرة لحماية التماسك الاجتماعي
لم تكن هذه الندوة حدثًا فكريًا منعزلًا، بل جزءًا من مبادرة وطنية أطلقتها الجماعة تحت عنوان “حماية التماسك الاجتماعي”، امتدادًا لوثيقة أُصدرت عام 2015، تهدف إلى ترشيد العادات الاجتماعية التي باتت تثقل كاهل الأفراد نفسيًا وماديًا.
جاءت استجابة لتفاقم مظاهر التفاخر والبذخ في المناسبات العامة، مثل الأعراس والعزاء وحفلات التخرج، وما ترتب عليها من أعباء مالية واجتماعية.
ومن أبرز توصياتها العملية:
* تقنين عدد المدعوين لتخفيف التكاليف.
* الامتناع عن المشاركة الرسمية في جاهات الأعراس.
* تشجيع الأعراس الجماعية كبديل اقتصادي واجتماعي.
* إنشاء صندوق وطني لدعم الزواج.
* تقليص مظاهر الضيافة في المآتم لتقتصر على أهل المتوفى فقط.
وقد لاقت المبادرة دعمًا رسميًا وشعبيًا، واعتُبرت خطوة جريئة نحو تعزيز قيم الاعتدال والتكافل في المجتمع الأردني.
وفي الاتجاه نفسه، أطلق وزير الداخلية مازن الفراية مبادرة مشابهة لمحاربة مظاهر البذخ التي تثقل كاهل المجتمع.
تحليل علمي للسلوك الاجتماعي
قدّم الدكتور مجد الدين خمش قراءة علمية معمّقة في دوافع السلوك الإنساني، موضحًا أن العادات الاجتماعية لا تنبع من فراغ، بل تتشكّل من تفاعل معقد بين دوافع داخلية وخارجية، تتأثر بالثقافة، والبيئة، والضغوط الجماعية.
أبرز محاور التحليل:
* الدوافع الداخلية: الحاجة للقبول، الانتماء، وإثبات الذات.
* الدوافع الخارجية: تأثير البيئة، والثقافة، والدين، والقانون.
* العادة والتكرار: تحول السلوك المتكرر إلى نمط اجتماعي راسخ.
* الضغط الجماعي: تبنّي سلوكيات لا تعكس قناعات الفرد.
* الرمزية الاجتماعية: منح السلوك شرعية جماعية ودلالة رمزية.
وأوضح الدكتور خمش أن كثيرًا من مظاهر التفاخر الاجتماعي ليست سوى استجابات لحاجات نفسية غير واعية، مثل الرغبة في القبول أو إثبات الذات و الحصول على الجاه و المال و المناصب و المكانه الاجتماعية.
تأملات شخصية
لقد فتحت لي هذه الندوة آفاقًا جديدة لأتأمل في العلاقة بين العمليات النفسية الداخلية والسلوك الاجتماعي الظاهري، فاستنتجت أن:
* السلوك الاجتماعي ليس مجرد عادة، بل نتاج تفاعل بين العقل، الشعور، العاطفة، والانفعال.
* الدماغ هو البنية الفيزيائية، أما العقل فهو العمليات التي تجري داخله كالتفكير والإدراك والتخيل.
* الانفعال حالة مؤقتة، بينما العاطفة وجدانية مستمرة، والشعور هو وعي الإنسان بهذه الحالة.
* كثير من العادات تُمارس لأن المجتمع يتوقعها، لا لأننا نؤمن بها.
* التغيير يبدأ من الفرد وينتقل إلى الجماعة، والوعي هو المفتاح لإعادة تشكيل العادات.
من التحليل إلى العلاج الجذري
من وجهة نظري، فإن تحليل المشكلات الاجتماعية أو الوطنية من منظور علم النفس وعلم الاجتماع هو الطريق الأمثل لحلّها من الجذور، لا من السطح.
فنحن لا نستطيع القضاء على المشكلة بمجرّد التنظير أو بعقد الاجتماعات، بل علينا أن نتعامل معها كما يتعامل الطبيب مع المرض: لا يكتفي بمسكنٍ للأعراض، بل يبحث عن الفيروس أو الجرثومة ليقضي عليها بالدواء المناسب.
وبالقياس، فإن علاج العادات الاجتماعية الخاطئة لا يكون بالمنع أو التنديد فقط، بل باستبدالها بسلوكات حميدة تحقق الهدف الإنساني ذاته ولكن بطرق راقية ومشروعة.
فمن يسعى إلى تحقيق ذاته بالجاه أو المال أو المنصب، لا يُلام على طموحه، لكن عليه أن يسلك طريقًا نبيلًا وإنسانيًا يخدم المجتمع لا أن يرهقه.
فبدلًا من إقامة حفلات التفاخر والبذخ، يمكن للفرد أن يبني مدرسة، أو مصنعًا، أو مركزًا ثقافيًا يشغّل الناس وينفعهم.
بدلًا من التباهي في الجاهات، يمكن أن ينشئ برامج توعية مجانية للأطفال والشباب.
فصرف المال في وجوه الخير والعلم والإنتاج هو الذي يمنح الإنسان مكانته الاجتماعية الحقيقية، لا المظاهر الزائلة.
عندها فقط يمكن القول إن الطموح أصبح قيمة إنسانية سامية، وأن من يسعى للمنصب أو الثراء صار جديرًا به، لأنه ربط النجاح بالمسؤولية.
ومن أراد تجارة رابحة فليجعلها تجارة مع الله ومع الناس — تجارة إنسانية تنفع وتبني، لا استعراضًا فارغًا يُبدّد ولا يُثمر.
من الوعي إلى المبادرة
ما ميّز هذه الندوة هو ربطها بين التحليل العلمي والمبادرة العملية.
فقد قدّمت نموذجًا وطنيًا لإعادة تشكيل العادات الاجتماعية على أساس من الوعي، والتكافل، والاعتدال.
إن إعادة النظر في السلوكيات لا تعني رفضها، بل فهمها وتفكيكها وإعادة بنائها بما يتناسب مع الهوية والواقع.
إنّ هذه الندوة لم تكن مجرد نقاش، بل انخراطًا في مشروع وطني يسعى إلى إعادة الاعتبار للقيم الأصيلة، وإلى بناء مجتمع أكثر توازنًا وإنسانية.
وقد ساهمت هذه التجربة في تعميق فهمي للسلوك الإنساني، وربطت بين علم النفس والاجتماع، وبين التأمل الشخصي والمبادرة المجتمعية.
وأدعو من هذا المنبر إلى تبنّي هذا النوع من الحوار، الذي لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسعى إلى تغييره، وإلى إعادة تشكيله على أسس من الوعي، والصدق، والكرامة.