وجهات نظر

العام الثاني تحت القبة… مرحلة استعادة الثقة

العام الثاني تحت القبة… مرحلة استعادة الثقة

بدأ مجلس النواب العشرين قبل أيام دورته العادية الثانية؛ فأنهى انتخاب مكتبه الدائم، وهو بصدد تشكيل لجانه النيابية بوصفه استحقاقا داخليا لا بُد من إنجازه قبل الشروع في أداء الوظيفة التشريعية والرقابية. وتُعدّ هذه الدورة، في ضوء الواقعين السياسي والدستوري، الأهم في عمر المجلس؛ بل يمكن القول إنها العصب الحقيقي لعمل البرلمان، والميزان الدقيق لقياس أدائه وإنتاجيته.

العمر الدستوري لمجلس النواب أربع سنوات تبدأ من تاريخ نشر نتائج الانتخاب العام في الجريدة الرسمية. وغالبا ما تكون الدورة الأولى مرحلة تأسيسية يتعرّف فيها النواب الجدد على النظام الداخلي وآليات العمل، ويختبرون خلالها أدوات التشريع والرقابة وطرائق التعامل مع الحكومة والقضايا العامة. ففي السنة الأولى يكون النائب في طور التعلّم والتأقلم، منشغلًا بفهم مفاصل العمل البرلماني وبناء شبكاته داخل المجلس وخارجه، ومتابعة القواعد الإجرائية التي تنظّم نشاطه اليومي.

أما الدورة الثانية فهي لحظة النضج السياسي؛ فيها تتبدّى الملامح الحقيقية للمجلس، وتُختبر قدرة أعضائه على الاضطلاع بأدوارهم الدستورية المناطة بهم. في هذه المرحلة يُفترض بالنائب أن ينتقل إلى طور الفعل والمبادرة بعد أن اختبر، خلال اثني عشر شهرا، طبيعة العلاقة الدستورية مع الحكومة وحدودها وخطوط التشابك بينهما، وتمرّس على إدارة الشؤون البرلمانية بخباياها وأسرارها. وعليه تصبح السنة الثانية أساسا لتعظيم دوره في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ولتعزيز انتظامه في حضور جلسات اللجان النيابية والمناقشات التشريعية داخل أروقة المجلس.

ومن المعلوم أن منتصف العمر النيابي هو المرحلة الأخصب من حيث الفعل التشريعي والرقابي؛ إذ يصفها السياسيون بأنها "الفترة التشريعية الأكثر إنتاجا"، حيث تتبلور الخبرات البرلمانية وتتراكم التجارب، وتُدرج أغلب مشاريع القوانين الكبرى على جدول الأعمال في هذه السنة تحديدا. فيبلغ حجم العمل التشريعي ونوعية الرقابة ذروتهما في منتصف الدورة الانتخابية، قبل أن يبدأ المنحنى بالتراجع تدريجيا مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية القادمة وما يصاحبها من حسابات سياسية وانتخابية.

ويعزز من أهمية السنة الثانية أنّ المجلس، بعد انقضائها، يدخل في مرحلة يمكن وصفها بـ "خريف العمر النيابي"، حيث تبدأ القوى السياسية والحزبية استعداداتها العملية للانتخابات المقبلة. وعندئذٍ تتجه الخطابات أكثر نحو الناخبين منها إلى الدولة والمصلحة العامة، وتطغى مظاهر البطولات واستعراضات القوة على جزء من المشهد النيابي إلى حين انتهاء الولاية الدستورية للمجلس، في محاولة من النواب لاستمالة ودّ ناخبيهم واستدرار أصواتهم في الاستحقاق الانتخابي القادم. وهنا يبرز التحدي الحقيقي أمام المجلس في الموازنة بين مقتضيات الشعبية ومتطلبات المسؤولية الوطنية.

واللافت مع بداية الدورة العادية الثانية حالة التوافق الحزبي والكتلوي غير المسبوقة على تقاسم المقاعد في المكتب الدائم للمجلس. فهذه الصيغة من التوافق السياسي داخل مجلس النواب، والائتلاف النيابي الذي تشكل للوصول إلى المواقع السيادية في هيئاته، ترفع سقف التوقعات والآمال الشعبية والسياسية بأن "القادم سيكون أجمل" في مجال الوظيفة التشريعية، وأن الحكومة ستتعامل مع مجلس أكثر يقظة وصلابة في ممارسة دوره الرقابي، بما ينعكس على نوعية المخرجات وعلى انتظام العمل المؤسسي.

وما سيميز الدورة العادية الثانية جملة من الاستحقاقات التشريعية الكبرى ذات الطابع الإداري والاجتماعي التي تمس حياة المواطنين مباشرة. في مقدّمتها مشروع قانون الإدارة المحلية الذي يُرتجى منه تعزيز مسار اللامركزية وتوسيع صلاحيات المجالس المنتخبة وتمكينها من أدوات التخطيط والرقابة على الخدمات. كما يُنتظر أن تدفع الحكومة بتشريعات تتصل بقانون الضمان الاجتماعي والأبنية والأراضي، وهي من أكثر القوانين تأثيرًا في الحياة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي. فالتعاطي مع هذه الملفات يتطلّب نقاشا معمقا ومسؤولية وطنية رصينة توازن بين المطالب الشعبية والاعتبارات المالية للدولة، بعيدا عن الشعارات والاصطفافات السياسية الضيقة، وبما يضمن استدامة الحقوق وعدالة الأعباء وتوزيعها على نحو متوازن.

إن ما سيُنجزه المجلس خلال دورته الثانية سيغدو علامة فارقة في سجله النيابي ومؤشرا حقيقيا على حيوية مشروع التحديث السياسي. فإمّا أن يثبت نفسه مجلسا فاعلًا يشرّع بجرأة ويحسن الرقابة بتوازن ويستجيب لحاجات الناس، وإمّا أن يتبدّد أثره في تفاصيل الخطابات والمصالح الشخصية الضيقة. فالحياة النيابية قد غابت لشهور عدة بعد انفضاض سامر الدورة الأولى وعدم عقد دورات استثنائية، الأمر الذي يضاعف مسؤولية المجلس في استئناف دوره بوتيرة أعلى وإنتاجية أكبر، ويُحمّله واجب استعادة ثقة الرأي العام بأدائه وبمقدرته على تحويل العناوين الكبرى إلى سياسات وتشريعات قابلة للتطبيق.

فمن المؤكد أن ما ستكشف عنه الدورة العادية الثانية سيكون له أثر مباشر في مسار الإصلاح السياسي، خصوصا في توزيع الزيادة المقرّرة على مقاعد القائمة الحزبية العامة التي سيزداد عددها بحكم القانون. وبذلك تغدو هذه الدورة اختبارا حقيقيا للتجربة الحزبية والبرلمانية، وفرصة سانحة لترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع عبر أداء نيابي مسؤول يعيد للبرلمان مكانته الدستورية، ويؤكد أن التعددية الحزبية تتجسد في الممارسة لا في الشعارات.

* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية