وجهات نظر

هل أصبح "اللايك" يكشف فهمنا؟! ..

هل أصبح "اللايك" يكشف فهمنا؟!  ..

كنت في نهاية الثمانينيات.. شاباً يتقد فضولاً وحماسة.. حين قادتني الأقدار إلى حضور جلسات الثقة لحكومة دولة مضر بدران عام 89.. كنت أجلس في شرفات المجلس.. أراقب المشهد بعينٍ ممتلئة بالدهشة.. وجوه النواب متحمسة.. تصفيق متواصل ممن هم حولي.. كلما علا صوت أحد النواب بانتقادٍ حادٍ لدولة الرئيس.. وكأن التصفيق صار معياراً للفهم والجرأة..

ثم ما لبثت أن رأيت المشهد ذاته يتكرر.. ولكن بصورة معكوسة.. حين ردّ مضر بدران بخطابٍ قويٍ وهادئٍ في آنٍ واحد.. وقف أولئك أنفسهم.. يصفقون له بحرارة أكبر.. عندها أدركت أن التصفيق عند الكثيرين.. لا يعني بالضرورة الفهم.. وأن كثيراً من الأيادي تصفق.. دون أن تعي ما الذي تصفق له.. فكتبت حينها أولى خواطري.. التي نشرتها "جريدة الرأي".. وكانت عن التناقض.. وعن الركض خلف الضجيج.. لا خلف المعنى..

واليوم.. وبعد أكثر من ثلاثة عقود.. أجد ذات المشهد يعود بثوبٍ جديد.. غير أن التصفيق صار يُقاس بعدد "اللايكات".. والضجيج صار رقمياً.. ورنينه يصمّ أكثر مما كان.. أتابع منشوراً ينتقد جهةً ما.. فيتسابق البعض لوضع الإعجاب عليه.. ثم أجدهم بعد قليل يضعون "لايكاً" على منشورٍ آخر.. أو ردٍ يناقضه تماماً.. فأبتسم بمرارة.. ليس لأنهم بلا موقف.. بل لأنهم بلا تدبر.. وكأن اللايك لم يعد موقفاً.. بل مجرد حركة أصبعٍ.. تُمنح مجاملةً لصاحب المنشور.. لا لمضمونه..

المفارقة أن تلك الإشارة الصغيرة.. التي لا تتجاوز جزءاً من الثانية.. صارت تُظهر حجم وعينا أكثر مما نظن.. إنها تكشف إن كنا نفهم فعلاً ما نقرأ.. أم أننا فقط نُسرف في المجاملات الرقمية.. نوزع الإعجاب كما نوزع السلام في الطرقات.. بلا روح.. بلا انتباه.. بلا إدراكٍ أن كل "لايك" هو في جوهره تصويتٌ فكريٌ على محتوى ما..

ليت مَن يمرّ على المنشورات.. يقف لحظة صمتٍ قبل أن يضغط.. ليتنا نمنح عقولنا فرصةً للفهم.. قبل أن نمنح أصابعنا الإشارة.. لأن اللايك في زمن الفوضى الفكرية.. لم يعد زينة تفاعلية.. بل صار مرآةً صادقة تكشف مَن يفكر.. ومَن فقط يتبع الصدى..

فهل أصبح اللايك.. يفضحنا أكثر مما يعبّر عنا.. دون أن ندرك ذلك؟!..