وجهات نظر

الاستغلال الخفي والسرقة العلمية: استباحة الفكر باسم التعاون

الاستغلال الخفي والسرقة العلمية: استباحة الفكر باسم التعاون


في عالم البحث العلمي، الذي يقوم جوهره على الأمانة والصدق الفكري والنزاهة الأكاديمية والإيمان العميق بأخلاقيات وقيم المعرفة، تتوارى خلف الشعارات البراقة ممارسات خفية تقوّض روح البحث وتشوّه مفهوم التعاون. ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون التعاون البحثي سبيلًا لتكامل الجهود وتبادل الخبرات لبناء فكر من وجهات نظر مختلفة، بات في بعض الأوساط الأكاديمية وسيلة يتسلل عبرها نوع من الاستغلال المقنّع والسرقة الممنهجة للأفكار والجهود. هذا النمط من الانتهاكات لا يُمارَس بسطحية أو بعفوية، بل يتجلى في سلوك منظم يمارسه بعض الباحثين الذين يتخذون من الكفاءات العلمية المشهورة مدخلًا لتحقيق مصالحهم الشخصية، مستخدمين التعاون البحثي غطاءً لتبرير استحواذهم على الخبرات والملفات والمساهمات العلمية للآخرين. فيبدؤون بإظهار إعجابٍ مصطنع بإنجازات زملائهم، ويقدمون أنفسهم كشركاء طموحين يسعون إلى تطوير مشاريع بحثية مشتركة، غير أن الهدف الحقيقي غالبًا ما يكون أبعد من روح التعاون، إذ يتمثل في امتصاص ما أمكن من معارف ومهارات وتجارب الطرف الآخر.

يبدأ الاستغلال عادة بخطوات صغيرة متقنة الإخراج، تحكمها لغة دبلوماسية وعلاقات أكاديمية ظاهرها الاحترام وباطنها الغرض. يُقدَّم طلب المشاركة في بحث أو مشروع مشترك تحت ذريعة التعاون العلمي، فيُمنح الباحث المستهدف شعورًا زائفًا بالتقدير، ويُدعى إلى مشاركة أدواته ومنهجه وبياناته وخبراته بحجة إثراء الفريق البحثي. ومع مرور الوقت، يتوسع نطاق المشاركة لتشمل الاطلاع على ملفات حساسة أو مسودات لم تُنشر بعد أو نتائج جزئية تمثل جهدًا علميًا خالصًا. وما إن يحصل الباحث المستغل على ما أراد، حتى يبدأ التراجع التدريجي عن المشاركة الفعلية، بحجج واهية كضيق الوقت أو تغيّر الاهتمامات أو ظروف العمل، لينسحب بهدوء تاركًا زميله أمام حقيقة قاسية: أنه قد استُخدم واستُنزف فكريًا دون مقابل حقيقي. الأسوأ من ذلك أن هذا النمط من الباحثين لا يكتفي بما حصل عليه، بل يستخدم الملفات والعروض التي اغتنمها وينسبها إلى نفسه ويعيد إنتاج الأفكار التي جمعها في مشاريع أخرى مع باحثين جدد، يكرر معهم اللعبة ذاتها تحت مسمى تعاون بحثي جديد، مستغلًا ما اكتسبه من سمعة زائفة بفضل جهود غيره.

إن هذه الممارسات تُعدّ من أخطر صور الانحراف الأخلاقي في الوسط الأكاديمي، لأنها تضرب الثقة في جذورها. فعندما يصبح التعاون غطاءً للاستغلال، يفقد العمل الجماعي معناه الأصيل، ويتحول من مساحة لتلاقح الأفكار إلى ميدان للانتهازية الفكرية. يتضرر الباحث المبدع مرتين: مرة حين يُسلب جهده، ومرة حين يفقد ثقته في بيئته الأكاديمية. فكيف يمكن أن يستمر الإبداع في مناخٍ يسوده الحذر والخوف؟ وكيف تُبنى المعرفة على أسس نزيهة حين يتجرأ البعض على استباحة الفكر باسم التعاون؟ إن تشويه مفهوم التعاون الأكاديمي بهذا الشكل لا يقف أثره عند الأفراد فحسب، بل يمتد ليضعف جودة الإنتاج العلمي ومصداقيته، لأن البناء المعرفي الذي يقوم على الاستغلال لا يمكن أن يثمر علمًا رصينًا أو بحثًا أصيلًا. والأسوأ أن هذه الممارسات تمر غالبًا دون مساءلة، نظرًا لصعوبة إثباتها قانونيًا، إذ تختبئ تحت غطاء رسمي من التعاون وتُقدَّم للجهات الأكاديمية بصورة مشروعة، في حين أن جوهرها قائم على النهب الفكري.

المسؤولية في مواجهة هذا الانحراف لا تقع على الضحايا وحدهم، بل على المؤسسات الأكاديمية والمجتمعات العلمية التي ينبغي أن تضع أطرًا واضحة لحماية الحقوق الفكرية داخل المجموعات البحثية. يجب أن تُنظَّم عقود التعاون البحثي بما يضمن توثيق مساهمات كل باحث بدقة، وأن تُحدَّد حدود استخدام البيانات والملفات والأفكار بين الأطراف المشاركة. كما ينبغي تعزيز ثقافة الوعي بحقوق الملكية الفكرية، وتشجيع الشفافية في إقرار نسب المساهمة عند النشر أو التقديم للمؤتمرات أو الجوائز. ومن المهم كذلك أن تتبنى الجامعات والمجلات العلمية سياسات واضحة للإبلاغ عن ممارسات الاستغلال أو السرقة الفكرية، وأن توفر آليات عادلة لحماية المبلغين عنها. إن مكافحة هذه الظواهر لا تتطلب فقط إجراءات إدارية، بل تحتاج إلى ترسيخ منظومة قيمية تُعيد للتعاون العلمي معناه الحقيقي: أن يكون شراكة قائمة على التكامل لا على التبعية، وعلى الاحترام المتبادل لا على الاستغلال، وعلى تبادل العطاء لا على سرقة الجهد.

إن استباحة الفكر تحت شعار التعاون ليست سوى صورة حديثة من صور الاستغلال التي تفرغ العلم من روحه. فالتعاون الأكاديمي في جوهره ليس تحالفًا شكليًا بين أسماء لزيادة فرص النشر أو التمويل، بل هو تفاعل إنساني وفكري نزيه، يقوم على مشاركة المعرفة لبنائها لا لنهبها. وحين يدرك المجتمع الأكاديمي هذه الحقيقة ويضع حدًا لأولئك الذين يتاجرون بالثقة باسم البحث، يمكن حينها فقط أن يستعيد التعاون مكانته كأسمى أشكال العمل العلمي. إن الإخلاص للعلم لا يتحقق بتعدد الأسماء على الغلاف، بل بالصدق في المساهمة، والاحترام العميق لكل فكرة وبيان وجهد بذله الآخرون. فحين يصبح التعاون مرادفًا للنهب، يفقد البحث روحه، وتفقد المعرفة قدسيتها، وتتحول المختبرات إلى ساحات صراع بدل أن تكون منارات للفكر. وحدها النزاهة قادرة على إعادة التوازن لهذه المنظومة، لتعود الشراكة الأكاديمية إلى معناها الأصيل: أن تكون بناءً مشتركًا، لا استباحة صامتة للفكر تحت عباءة التعاون.