وجهات نظر

مَن يتحمل نفقات إعادة إعمار غزة؟

مَن يتحمل نفقات إعادة إعمار غزة؟


شهد قطاع غزة دمارًا غير مسبوق في تاريخه الحديث بعد حرب الإبادة الأخيرة، إذ تحولت مساحات واسعة منه إلى أنقاض، وانهارت بنى تحتية بكاملها، بما في ذلك الطرق والمستشفيات والمدارس وشبكات الكهرباء والمياه. إذ تشير تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي إلى أن تكلفة إعادة إعمار القطاع قد تتراوح بين خمسين إلى سبعين مليار دولار، بينما تذهب تقديرات أخرى إلى أن التكلفة قد تتجاوز مئة مليار دولار عند احتساب الخسائر غير المباشرة مثل فقدان مصادر الدخل، وتعطل الخدمات العامة، والآثار الاجتماعية والنفسية الممتدة. وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية أن نحو ستين إلى ثمانين في المئة من مباني غزة تعرضت لأضرار كلية أو جزئية، مما يعني أن إعادة الحياة إلى طبيعتها تحتاج إلى سنوات طويلة وجهود ضخمة تتجاوز قدرة أي جهة منفردة.

لكن حجم الدمار المادي لا يعكس سوى جزء من الكارثة، إذ يعيش مئات الآلاف من السكان في ظروف قاسية بعد أن فقدوا منازلهم وأولادهم وأقاربهم، بينما يعاني آلاف الجرحى من إعاقات دائمة وتشوهات جسدية ونفسية. هذه الإصابات ليست مجرد أرقام في التقارير، بل هي مصائر إنسانية تحتاج إلى برامج طويلة الأمد لإعادة التأهيل والرعاية الصحية.

كذلك تعطلت العملية التعليمية بشكل شبه كامل، فدُمرت المدارس أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين، وحُرم جيل كامل من الأطفال من الدراسة المنتظمة، ما يهدد مستقبلهم العلمي والمهني. إن انقطاع التعليم لسنوات متتالية يؤدي إلى تراجع مهارات الشباب ويدفعهم إلى فقدان الأمل في المستقبل، مما يفاقم الأزمات الاجتماعية ويزيد من احتمالات الفقر والبطالة والجريمة.

إزاء هذا الوضع الكارثي، يبرز السؤال الأهم: مَن يتحمل نفقات إعادة إعمار غزة؟

من الناحية القانونية والأخلاقية، تتحمل إسرائيل باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال والحصار جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن الدمار الذي لحق بالقطاع، خاصة أن العمليات العسكرية استهدفت مناطق مدنية ومرافق حيوية لا علاقة لها بالأهداف العسكرية. القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقيات جنيف، يفرض على القوة المحتلة واجب حماية المدنيين وضمان تلبية احتياجاتهم الأساسية وعدم إلحاق الضرر المتعمد بالبنية التحتية المدنية. وإذا ثبت أن إسرائيل انتهكت هذه المبادئ، فإنها تتحمل مسؤولية التعويض ودفع نفقات إعادة البناء.

هذا المبدأ يجد ما يدعمه في قرارات محكمة الجنايات الدولية، التي أصدرت مذكرات توقيف بحق عدد من القادة الإسرائيليين على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. هذه الخطوة تمثل اعترافًا دوليًا بأن هناك انتهاكات جسيمة وقعت، وتفتح الباب أمام المطالبة القانونية بالتعويض. كما أن محكمة العدل الدولية كانت قد أصدرت أوامر احترازية تُلزم إسرائيل بمنع ارتكاب أعمال قد ترقى إلى الإبادة الجماعية، وهو ما يعزز من إمكانية تحميلها المسؤولية عن إعادة الإعمار كجزء من جبر الضرر الواقع على المدنيين.

ولعل التجربة الأوكرانية تطرح مثالًا مهمًا في هذا السياق، حيث تتجه النية في أوروبا إلى إلزام روسيا، بعد انتهاء الحرب، بتمويل إعادة إعمار أوكرانيا وتعويضها عن الخسائر التي لحقت بها نتيجة الغزو. إذا كان هذا المبدأ يُقبل دوليًا في حالة روسيا، فمن المنطقي أن يُطبّق على إسرائيل التي تسببت في دمار واسع في غزة والضفة الغربية، فالقانون الدولي لا يميز بين معتدٍ وآخر. من هنا، فإن مطالبة المجتمع الدولي إسرائيل بتحمل نفقات الإعمار ليست مطلبًا سياسيًا فحسب، بل هي استحقاق قانوني وإنساني ينبغي أن يجد طريقه إلى التنفيذ.

ومع ذلك، تدرك الدول العربية أن انتظار تحرك العدالة الدولية وحده قد يستغرق وقتًا طويلًا، لذلك أعلنت عدد من الدول، وفي مقدمتها قطر والكويت، استعدادها للمساهمة في تمويل إعادة الإعمار. فقد أكدت هذه الدول أن دعم الشعب الفلسطيني واجب عربي وإنساني، وأن المساعدة في إعادة بناء غزة مسؤولية مشتركة لا يمكن التهرب منها. وقد طرحت الدول العربية خطة لإعادة الإعمار تتجاوز البنية التحتية إلى إعادة تأهيل المؤسسات التعليمية والصحية والنفسية والاجتماعية، بحيث يتم ترميم الإنسان إلى جانب الحجر. هذه المبادرات العربية تعكس رغبة حقيقية في التخفيف من معاناة الفلسطينيين، لكنها لا تعني إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها القانونية عن الخسائر التي تسببت بها.

غير أن تنفيذ أي خطة لإعادة الإعمار يواجه تحديات كبيرة، أبرزها غياب آلية دولية واضحة لإلزام إسرائيل بالتعويض أو السماح بدخول المواد اللازمة للبناء. كما أن الانقسام السياسي الفلسطيني، والتجاذبات الإقليمية، قد تعرقل إدارة أموال الإعمار وتوزيعها بشفافية وعدالة. لذلك، لا بد من وجود هيئة دولية محايدة تشرف على العملية وتضمن أن تصل المساعدات إلى مستحقيها دون تدخل سياسي أو فساد إداري.

إن إعادة إعمار غزة ليست مجرد مهمة إنشائية، بل اختبار حقيقي لضمير العالم. فإما أن تكون العدالة مبدأً عامًا يسري على الجميع، وإما أن تبقى شعارات تُرفع حين تتناسب مع مصالح الأقوياء. وحتى ذلك الحين، سيبقى أمل الفلسطينيين معلّقًا بين مبادرات عربية صادقة، وقرارات دولية لم تُنفّذ بعد، وانتظار طويل لإنصافٍ يبدو أنه لا يزال بعيد المنال.

لقد شهد التاريخ الحديث حالات متعددة تحمّلت فيها دولٌ مسؤولية إعادة إعمار وتعويض الدول أو الشعوب التي تضررت بسبب حروبها وعدوانها، ما يجعل المطالبة بإلزام إسرائيل بتعويض غزة أمرًا مشروعًا ومتسقًا مع السوابق الدولية. فعلى سبيل المثال، بعد غزو العراق للكويت عام 1990، أُنشئ «لجنة الأمم المتحدة للتعويضات» بقرار من مجلس الأمن، وأُلزم العراق بدفع تعويضات ضخمة بلغت عشرات المليارات من الدولارات للكويت وللأفراد والشركات التي تضررت من الحرب. وقد تم اقتطاع نسبة من عائدات النفط العراقي لتغطية تلك التعويضات على مدى سنوات طويلة، حتى أُعلن في عام 2022 عن سداد العراق لكامل المبالغ المستحقة. هذه السابقة القانونية تؤكد أن المجتمع الدولي قادر على فرض التعويضات على دولة معتدية بموجب قرارات ملزمة.

كذلك يمكن استحضار تجربة ألمانيا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث فُرضت عليها تعويضات مالية هائلة للدول التي تضررت من الحرب، وخصوصًا لفرنسا وبريطانيا وبولندا وغيرها. ففي معاهدة فرساي عام 1919، أُجبرت ألمانيا على دفع مبالغ ضخمة وصلت إلى مئات المليارات بالقيمة الحالية، باعتبارها المسؤول الأول عن اندلاع الحرب.

ورغم ما أثارته تلك القرارات من جدل سياسي واقتصادي، فإنها أرست مبدأ ثابتًا في القانون الدولي مفاده أن الدولة التي تُسبب الدمار والخراب تتحمل كلفة إصلاحه وتعويض المتضررين. وتكرر الأمر بعد الحرب العالمية الثانية حين خضعت ألمانيا لبرامج إعادة إعمار وإصلاح، تضمنت تحملها نفقات مباشرة وغير مباشرة لإعادة بناء أوروبا وتعويض ضحايا النازية.

تلك السوابق التاريخية، من العراق إلى ألمانيا، تبرهن أن تحميل دولة ما نفقات إعادة الإعمار ليس سابقة جديدة، بل هو تطبيق طبيعي لمبدأ العدالة الدولية. وبالقياس على ذلك، فإن مطالبة إسرائيل بدفع تعويضات لغزة عن الخسائر البشرية والمادية التي تسببت بها ليست مطلبًا سياسيًا بل استحقاق قانوني وإنساني يتوافق تمامًا مع ما جرى في تجارب سابقة رسختها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.

في نهاية المطاف، لا يمكن اختزال إعادة إعمار غزة في جمع الأموال أو إعادة بناء المباني، فالقضية أعمق من ذلك بكثير. هي مسألة عدالة تاريخية واعتراف بالمسؤولية. إن تعويض الضحايا ومعالجة الإعاقات الجسدية والنفسية واستعادة التعليم وإحياء الأمل في نفوس الشباب كلها عناصر لا تنفصل عن مفهوم الإعمار الحقيقي. وإذا كان المجتمع الدولي جادًا في حماية القانون الدولي وحقوق الإنسان، فعليه أن يطبق على إسرائيل ما يطالب بتطبيقه على غيرها من الدول، وأن يحمّلها مسؤولية ما ارتكبته من تدمير وتهجير وقتل.