وجهات نظر

غزة .. الحرب التي انتهت ولم تنته

غزة  ..  الحرب التي انتهت ولم تنته

في أكثر القضايا تعقيداً وحساسية، تبقى الموضوعية والتجرد ضرورة لا ترفاً ، بل هي واجب أخلاقي لمن أراد أن يرى الحقيقة بصفائها بعيداً عن الانفعال والضجيج ، فهما المعيار الحقيقي لقراءة المواقف وفهم الأحداث دون انفعال أو اصطفاف أعمى ، فالعقل الذي يؤسره الانحياز يفقد بصيرته ، أما العقل المتزن فهو من يملك شجاعة أن يفهم قبل أن يحكم ، وأن يزن المواقف بميزان العدل لا بالعاطفة ، في زمن تتقاذفه الموجات الإعلامية الموجهة، وتختلط فيه الأصوات بالدعايات.

في قضية العدوان على "غزة"، استطاعت السردية الإسرائيلية في بداياتها أن تضلل الرأي العام العالمي، خصوصا على مستوى الشعوب، لكنها سرعان ما سقطت أمام مشاهد الإبادة والدمار التي تجاوزت حدود العقل والإنسانية ، فقد تحول الإجرام الممنهج ذاته إلى أداة فضح لتلك السردية، فسحب البساط من تحت أقدامها، وتحول التعاطف الدولي إلى سخط ورفض عالمي متصاعد ، حتى باتت "إسرائيل" دولة منبوذة أخلاقياً وسياسياً ، ومن هنا، فإن تنامي الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية "ولو في صور رمزية أو شكلية" يعد انتصارا سياسيا يحسب لملحمة طوفان الأقصى بلا أدنى شك.

اللافت أن هذا العالم، الذي توحد ضد الإبادة الجماعية، لم يبد معارضة تذكر تجاه ملف تبادل الأسرى، وهو ما التقطته إدارة الرئيس "ترامب" بذكاء ، اذ ان جوهر المقترح "الترامبي" كان يقوم في الأساس على "الأسرى الإسرائيليين"، إذ بدت الادارة الأمريكية "بعمقها الاستراتيجي" وكأنها تبحث عن ورقة إسرائيلية يمكن تمريرها عالميا دون اعتراض، فلم تجد سوى ملف الأسرى لتبني عليه مشروعها السياسي .

أما "نتنياهو" ، فكان عقبة مقصودة في طريق أي تسوية، حين أصر على ربط اتفاق تبادل الأسرى باستئناف العدوان لاحقا ، ولأجله، مددت واشنطن المهل تلو المهل ، لكنها في نهاية المطاف وجدت نفسها أمام فشل ذريع لا يمكن تجميله.

والحقيقة أن ما عرف بما قدمه الرئيس "ترامب" وعرف بـ"مقترح ترامب" ليس إلا غطاء لقرار أمريكي أعمق، مفاده أن إنهاء الحرب أصبح ضرورة حتميه ، فحين تقرر واشنطن التوقف، تغلق كل الملفات القابلة للتأجيل "الأسرى، والإدارة الانتقالية، وحتى مستقبل السلاح" ويبقى المبدأ الثابت ، "لا عودة للحرب" .

انا اعتقد ان الحرب انتهت عسكريا، حتى وإن استمرت بأشكال أخرى "اقتصادية، إعلامية، أو سياسية" ولكن جوهر المرحلة المقبلة يتمحور حول اليوم التالي ، "كيف تُدار "غ ز ة" ؟" ومن يمسك بمفاتيح المرحلة الانتقالية؟

من الواضح أن لا أحد يريد لـ"ح م ا س" دورا محوريا، كما لا أحد يرغب في أن تعود إسرائيل إلى حرب شاملة كالتي شاهدناها خلال عامين من الدم والنار ، فهذه هي المقاربة الجديدة التي تتبلور بين واشنطن والمجتمع الدولي، وتجد في مبادرة الرئيس "السيسي" ، الداعية لمنح الاتفاق شرعية دولية عبر مجلس الأمن ، ترجمة عملية لتلك الرؤية ومؤشرا على مستوى التوافق الدولي القادم.

في ضوء كل ذلك ، تبقى هذه القراءة اجتهاداً موضوعياً لفهم مسار الأحداث كما تتبدى في المشهد العربي والإسلامي والدولي ، وأما أولئك الذين يروجون لانكسار المقاومة أو نهايتها، فهم في حقيقة الأمر يروجون لوهم مدفوع الثمن ، فالمقاومة ليست بندقية فحسب ، بل هي روح شعبٍ لا يهزم ، وإرادة أمة تتجدد في كل بيت من بيوت "غ ز ة" ، وفي كل أم ودعت شهيدا فنهضت أقوى، وفي كل طفل يرى في الركام وطناً قادماً لا يموت ، فمن صمدت بأسطورية لعامين أمام آلة حرب عاتية ، لم تنكسر، ولن تنكسر، لأن جذورها ممتدة في وجدان الفلسطيني الذي لم يغادر أرضه ولا حلمه ، ومن يشكك في ذلك، فقد أسقط عن نفسه آخر أوراق الكرامة ، وارتضى أن يكون صدى لمصالح وأرصدة ، لا لصوت الحق ولا لنبض الشعوب.

والله بالغ أمره..