وجهات نظر

غراس المعلم… ثمار الحضارة

غراس المعلم… ثمار الحضارة

أبدأ مقالي بتحية تقدير واحترام لكل معلم، قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا، فالمعلم ليس مجرد موظف يؤدي ساعات عمل، بل هو صانع الحياة وجيل المستقبل، الذي يغرس القيم ويرسم ملامح المستقبل في عقول الأجيال ويبني الحضارة. فالغراس الأول في تربة المجتمع: هو المعلم، يزرع اليوم ليحصد الوطن غدًا ثمارًا يانعة من علم ووعي وحضارة. وحين نحترم ونقدر المعلم فإننا لا نحتفي بشخص واحد؛ بل نكرم جيشًا من العقول والقلوب التي تعمل بصمت كي يزدهر العالم من حولنا.

إن المعلم هو الذي يفتح أبواب الحلم للطفل الصغير، يعلّمه أن الحروف بداية الطريق، وأن القراءة نافذة على الكون، وأن العلم وسيلة للكرامة والحرية. هو الذي يقف في الصف الأول يواجه الجهل كما يواجه الجندي في الميدان كل الأخطار. وكما لا تقوم دولة بلا جنود، لا تقوم حضارة بلا معلمين. إنهم الجنود المجهولون الذين لا يحملون السلاح، بل يحملون الأقلام، ولا يرفعون الشعارات، بل يغرسون القيم.

كم من طبيب عالج جراحًا، وكم من قاضٍ رفع ظلمًا، وكم من مهندس شيّد صرحًا، وكم من مبدع غيّر مسار أمة، وراء كل هؤلاء يقف معلم كان أول من آمن بقدراتهم. فالمعلم الحقيقي لا ينحصر أثره في غرفة الصف، بل يمتد ليصنع إنسانًا جديدًا يحمل رسالة ويترك أثرًا في أسرته ومجتمعه ووطنه. وكلما كبر التلميذ وتقدم في حياته، بقي صوت معلمه الأول يتردد في أعماقه، يذكّره بالدرس الأجمل: أن النجاح يبدأ من الإيمان بالذات. ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم إذا أهمل مكانة المعلم. فالمعلم الذي يزرع غراس الصدق والأمانة والعلم، هو الذي يؤسس لمجتمع قوي متماسك. وإذا ضعفت مكانة المعلم في عيون الناس، ضعفت تباعًا قيمة العلم، وتراجعت مكانة القيم، وتفكك المجتمع وهنا تكمن الخطورة. لذلك كانت الحضارات الكبرى تعطي المعلم مكانة القدوة، وتعتبره باني الحضارة الأول.

اليوم، ونحن في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي، ما زال دور المعلم جوهريًا لا يغيبه تكنولوجيا ولا روبوتات، فهو الأساس. فالتقنيات الحديثة مهما بلغت لا تستطيع أن تمنح الطالب القيم الإنسانية ولا أن تزرع فيه روح الانتماء، بينما المعلم هو القادر على دمج العلم بالأخلاق، والتقنية بالإنسانية. إنّه المرشد الذي يوازن بين ثورة المعلومات وبين حاجتنا إلى ضمير حي وعقل ناقد. ولعل أعظم ما يميز المعلم أنه يصنع الإنسان قبل أن يصنع المعرفة، والإنسان هو أساس كل تقدم.

عزيزي القارئ قد يسأل البعض: لماذا يحتل المعلم كل هذه المكانة؟ الجواب بسيط: لأن كل مهنة تبدأ من معلم. الطبيب، القاضي، الصحفي، العالم، كلهم كانوا يومًا ما طلابًا جلسوا على مقعد في صف وتلقوا أولى دروسهم من معلم. هو البذرة الأولى في حديقة المستقبل، ومن دونها لا يمكن أن تثمر أي شجرة. ولذلك فإن تقدير المعلم ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية.

ولأن أثر المعلم عميق، فإن تكريمه لا يكفي أن يكون في يوم واحد من السنة. التكريم الحقيقي أن نحفظ مكانته في وجداننا، وأن نمنحه التقدير اللائق في السياسات التعليمية، وأن نتيح له التدريب المستمر ليبقى قادرًا على مواكبة التطورات. فالمعلم الذي يتطور علميًا وتكنولوجيًا يظل قادرًا على العطاء والإبداع، والمعلم الذي يحاط بالاحترام ينعكس أثره مباشرة على طلابه الذين يتعلمون منه قيمة التقدير والعمل الجاد.

نحتاج أن نعيد صياغة نظرتنا للمعلم ليبقى دائمًا قدوة. لا نريده مجرد ناقل معلومات، بل نريده مربيًا وصانع قيم. لا نريده أن يكون حاضرًا في الصف فقط، بل حاضرًا في ضمائرنا وفي تفاصيل حياتنا. فكل كلمة يقولها المعلم يمكن أن تغيّر مسار حياة، وكل ابتسامة يمنحها لطالب قد تفتح له باب أمل واسع. إنه يزرع ولا ينتظر، يعطي ولا يمل، يعلم وهو يدرك أن ثمار عمله قد لا يراها بعينه لكنه يوقن أنها ستثمر ذات يوم.

يوم المعلم ليس مجرد ذكرى، بل هو وعد منا أن نرد الجميل، وأن نعيد الاعتبار لمن يستحقون أن يُرفع لهم القبّع. فالمعلم هو الأصل، وكل شيء بعده فرع. إذا أردنا أن نحصد حضارة قوية، فعلينا أن نرعى جذورها، وجذورها تبدأ من غرفة الصف، من يد معلم يمسك قلمًا ويكتب أول حروف الأمل في عقل طفل صغير.

فشكرًا لكل معلم كان وما زال غراسًا يُثمر العلم والحضارةفي فلذات أكبادنا. وشكرًا لكل من علّمنا كيف نقرأ ونكتب، كيف نحلُم ونُفكر، كيف نطلق العنان لأفكارنا وننسج خيالنا وآمالنا وكيف نحب وطننا وننتمي إليه. شكرًا لأنكم تصنعون الحياة في صمت، وتبنون المستقبل بصدق، وتغرسون فينا أن الحضارة ليست في البنيان وحده، بل في العقول والضمائر التي صنعها معلم كريم. فالمعلم باختصار هو الغراس الذي لا يموت، والثمار التي لا تنقطع والنصيحة التي تتناقلها الأجيال والهمسة التي تحيي فينا ضميرا. هو البداية التي تُنبت منها كل النهايات المشرقة. فإذا أردنا أن نعرف مستقبل أي أمة، فلنسأل عن معلميها: كيف يعيشون؟ كيف يعملون؟ كيف يُكرمون؟ لأن الجواب سيكشف لنا أي حضارة تنتظرنا، وأي غدٍ نصنعه