وجهات نظر

تأبين مبكر لنتنياهو

تأبين مبكر لنتنياهو


حالة الإنكشاف التي تعرض لها نتنياهو في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة غير مسبوقة، هي ليست مجرد عزل شكلي، بل حالة رفض دولية، حالة لم يتنصل منها حتى كثير من أصدقاء إسرائيل التقليديين، صحيح أننا كعرب عانينا طويلا من خذلان هذه المنظمة الدولية الأعلى في الكرة الأرضية، وأن ثقتنا بما ينتج عنها في أدنى مستوياتها وهذا مبرر تاريخيا، لكنني هنا لا أتحدث عن قرارات وبيانات الجمعية العمومية ولا مجلس الأمن، بل حالة الرفض العالمية لنتنياهو بما يمثله من سياسة عنصرية متطرفة، ووجوده على رأس حكومة دموية متغطرسة لأكثر من ربع قرن، أجهض خلالها كل ما من شأنه أن يصنع السلام ولو بشروطه الدنيا، هو رفض وإدانة عالمية لا على مستوى الشعوب الحرة فقط، بل اللافت هذا اللفظ من معظم قادة دول العالم للحالة النتنياهوية شديدة الفجاجة والغطرسة، ليجد النتنياهو نفسه بوضع غاية في الضعف والخزي لا سابقة له في تاريخ دولة إسرائيل، فكأنه قامر بكل شيء وحان وقت الخسارات الكبرى.

نتنياهو في الداخل الإسرائيلي يعاني منذ سنوات، لكنه كان يعرف دائما كيف يوظف انتهازية اليمين الإسرائيلي الصاعد، ففرض نفسه على السياسة الإسرائيلية لعشر سنوات إضافية رغم إضمحلال شعبيته كثيرا، والآن يواجه مصيرا محليا وعالميا مزريا، خاصة بعد أن كشفت مصادر إسرائيلية أمنية تواطئ نتنياهو مع الـ 7 من اكتوبر بسبب معرفته المسبقة به فورط الطرفين في حرب يصعب فيها تحديد المنتصر على المدى البعيد، وهناك عن مسألة الرهائن التي لم يعرها الاهتمام الحقيقي بل قامر بها أيضا، وإضافة إلى ملفات الفساد التي تتضاعف يوما بعد يوم، وحالة الاستعصاء السياسي في الداخل الإسرائيلي التي تسبب بها وأنتجها واعتاش عليها نتنياهو، ولا ننسى هشاشة الوضع الأمني الذي لم تخفه حملاته العسكرية في لبنان وسوريا واليمن وإيران، بل ربما كشفت أكثر ضعف الجبهة الداخلية، وصدأ القبة الحديدية، كما أن الاقتصاد الإسرائيلي في حالة شبه انهيار بسبب استنزاف الحرب، وتوقف السياسة، وتعطل حركة الإنتاج، وخسارة الأيدي العاملة الفلسطينية ومقاطعة كثير من الدول لإسرائيل، كلها عوامل تدفع مرحلة نتنياهو إلى الهاوية حتما.

إذا هي ليست عزلة عابرة، بل سلسلة خسائر يصعب إيقافها، فكما بشر نتنياهو بشرق أوسط جديد، فوجئ بعالم جديد، عالم تغير هو الآخر، فالغرب الذي أنتج إسرائيل من أجل مصالحه، لم يعد بحاجة لخدماتها اليوم كما كان سابقا، بل أن كلفة إسرائيل المادية والأخلاقية كبيرة على الغرب، في حين أصدقاء الغرب في الشرق الأوسط من غير إسرائيل أكثر فائدة وابعد استراتيجيا من مواصلة إنعاش إسرائيل بشكل لا نهاية له، كمريض يبقى ما بقيت أجهزة الإنعاش فإن رفعت توقفت أنفاسه، هذه الأجهزة بالغة الكلفة وقليلة الفائدة، الغرب أدرك ويدرك اليوم كل هذا بشكل أكثر وضوحا.

حاول نتنياهو إعادة إنتاج دور إسرائيل الوظيفي، من خلال تقديم نفسه كرأس حربة في مواجهة ما يسميه بالإرهاب الإسلامي، وأنه رمح قاتل في خاصرة هذا الإرهاب، واعتبر هذا الدور بديلا عن السلام الشامل، وأن الهيمنة على الشرق الأوسط لن تتم في حال بقيت إسرائيل مكبلة بإتفاقيات السلام، أو دخلت في تسويات تنتج دولة فلسطينية بأي صيغة كانت، لكن هذا المسعى وإن نجح مرحليا، لكن إفرازات الحالة الراهنة أثبتت فشله، وصار وجود نتنياهو مشكلة كبرى ليس للفلسطنيين والعرب فقط، بل للإسرائيليين وللعالم والغرب تحديدا، فلا يمكن أن تنفك عقدة الشرق الأوسط بوجود نتنياهو وأركان حكومته، وأن خروجه من الحلبة صارت ضرورة دولية قبل أن تكون إسرائيلية داخلية، فكثير من المفكرين والساسة واليهود اصبحوا أكثر اعتقادا أن بقاء نتنياهو يشكل خطرا وجوديا على دولة إسرائيل، وأن عليه المغادرة قريبا، وأمريكا ترامب لم تعد ترغب ببقائه وهذا واقع ملموس ولا يخفى على الكثيرين، وفي الجمعية العمومية للأمم المتحدة كان ما جرى حفل تأبين مبكر لنتنياهو.