وجهات نظر

فلسطين بين الاعتراف الدولي وقبضة مجلس الأمن

فلسطين بين الاعتراف الدولي وقبضة مجلس الأمن


لم يكن الحراك الدولي الأخير نحو الاعتراف بدولة فلسطين بمعزل عن الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي قادها جلالة الملك عبد الله الثاني في مختلف المحافل الإقليمية والدولية. فقد كرّس جلالته موقع الأردن المحوري في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، مؤكداً في خطاباته السابقة في الأمم المتحدة والقمم العربية والدولية أنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو المدخل الحقيقي لإحياء حل الدولتين وضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. وتجلّت هذه الجهود في مواقف متكررة تدعو المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وإلى التمسك بحدود عام 1967 والقدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية المستقلة.

وقد تزامنت هذه الجهود مع خطوات عملية اتخذتها عدة دول كبرى عبر الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما شكّل تحوّلًا نوعيًا في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية، إذ يفتح الباب أمام نقاشات معمّقة حول طبيعته القانونية وآثاره السياسية على الاحتلال الإسرائيلي الممتد منذ عقود. فرغم كونه فعلًا سياسيًا بالأساس، إلا أنه يترتب عليه آثار قانونية مباشرة تتصل بمكانة دولة فلسطين وبالتزامات الدول الأخرى إزاء الأوضاع غير المشروعة الناشئة عن الاحتلال.

وفي هذا السياق، يبرز البعد النظري للاعتراف بالدولة في القانون الدولي باعتباره إقرارًا كاشفًا بواقع قانوني سابق إذا توافرت مقومات الدولة وفق معيار اتفاقية مونتفيديو لعام 1933، التي حددت عناصر الدولة في: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية، والقدرة على الدخول في علاقات دولية. وقد أضفت الأمم المتحدة في مناسبات عدة الصفة الدولية على فلسطين، بدءا من قرار الجمعية العامة عام 2012 بمنحها صفة "دولة مراقب غير عضو"، مرورً بقبول عضويتها الكاملة في منظمة اليونسكو عام 2011، وصولًا إلى توقيعها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 2015.

وبالاستناد إلى هذه التطورات، تأتي الاعترافات الأخيرة الصادرة عن دول كبرى لتعزّز اتجاها دوليا متزايدا للتعامل مع فلسطين كدولة متميزة عن إسرائيل التي أُنشئت عام 1948 وحظيت باعتراف دولي واسع منذ ذلك التاريخ. غير أن هذه الموجة الدولية لا تكفي وحدها لإنهاء الاحتلال أو لإجبار إسرائيل على الاعتراف القانوني بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967.

غير أن الاعتراف، مهما اتسع نطاقه، يصطدم بالقيود الإجرائية داخل الأمم المتحدة، إذ تبقى قواعد الميثاق واضحة بشأن شروط العضوية الكاملة؛ فالمادة (4) منه تنص على أن قبول عضوية أي دولة يتم بقرار من الجمعية العامة بناءً على توصية مجلس الأمن. وبالتالي فإن استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل أحد الأعضاء الدائمين في المجلس يشكّل عائقًا قانونيًا يحول دون صدور التوصية اللازمة، كما حدث في نيسان 2024 حينما أسقط الفيتو الأميركي مشروع قرار بقبول فلسطين عضوًا كاملًا.

كما تجدر الإشارة إلى أن الاعترافات بالدولة الفلسطينية عادة ما تقترن بإحالة صريحة إلى خطوط 1967 بما فيها القدس الشرقية؛ ومع أن الاعتراف لا يرسم الحدود بذاته، إلا أنه يرسّخ مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة وواجب عدم الاعتراف بالأوضاع الناشئة عنها. وهما مبدآن راسخان في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. كما دعا مجلس الأمن في قرارات عدة الدول إلى التمييز بين أراضي إسرائيل والأراضي المحتلة، وفرض في قراره رقم (478) لعام 1980 سحب البعثات الدبلوماسية من القدس وعدم الاعتراف بالقانون الأساسي الإسرائيلي بشأنها.

ومع ذلك، فإن الاعتراف بفلسطين يثير إشكاليات أوسع تتعلق بجدوى النظام الدولي القائم، إذ يكشف عن فجوة بين الإرادة السياسية المتنامية لدى أغلبية الدول في الجمعية العامة وبين القيود الإجرائية التي يفرضها مجلس الأمن من خلال آلية الفيتو. فالمسألة لا تتعلق فقط بعضوية فلسطين، بل بمدى قدرة الأمم المتحدة على تحقيق مقاصدها الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليين وتمكين الشعوب من ممارسة حقها في تقرير المصير. وهذا يفتح نقاشا متجددا حول إصلاح هياكل المنظمة الدولية، بما يضمن اتساق القرارات الصادرة عن الجمعية العامة مع التنفيذ العملي في مجلس الأمن.

وفي الوقت ذاته، يضع الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين إسرائيل أمام مسؤولية دولية مضاعفة، إذ لم يعد الاحتلال مجرد نزاع ثنائي قابل للتفاوض، بل أصبح وضعا غير مشروع يواجه إجماعا دوليا على رفضه. وهذا يفرض التزامات محددة على الدول الأخرى، ليس فقط بعدم الاعتراف بالضم والاستيطان، بل أيضا بعدم تقديم أي دعم مادي أو سياسي يمكن أن يسهم في إدامة الاحتلال، وهو ما يجعل الاعتراف أداة ضغط دبلوماسي وقانوني متدرج الأثر على إسرائيل.

ومن الناحية العملية، يمكن أن يشكّل الاعتراف بدولة فلسطين أساسا قانونيا وسياسيا لتعزيز انخراطها في المنظمات الدولية، وإبرام الاتفاقيات متعددة الأطراف، والانضمام إلى المعاهدات التي تتيح لها المطالبة بمساءلة إسرائيل أمام المحاكم الدولية. كما يمنح هذا الاعتراف زخما جديدا للمبادرات السياسية الرامية إلى استئناف المفاوضات على أسس القانون الدولي، بعيدا عن موازين القوى المختلة التي حكمت العملية التفاوضية منذ اتفاق أوسلو.

خلاصة القول، إن الاعتراف الدولي بفلسطين يشكّل رافعة قانونية وسياسية تعزّز حضورها الدولي وتضيّق هامش المناورة أمام إسرائيل في تكريس احتلالها. وهو يكرّس مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ويفعّل التزامات المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بالوضع غير المشروع وعدم الإعانة عليه. ومع ذلك، يبقى الاعتراف ـ رغم أهميته ـ خطوة ناقصة ما لم يُستكمل بإصلاح الخلل في آليات مجلس الأمن للتغلب على الفيتو الذي يعرقل استكمال مسار فلسطين نحو العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.