وجهات نظر

حب زمان

حب زمان

هناك لحظات في العمر لا يطويها النسيان مهما تعاقبت السنين، لحظات تبقى حيّة في الذاكرة كأنها بالأمس. ومن بين تلك اللحظات، يقف الحب الأول شامخاً كجبلٍ عاطفي لا تهزّه الرياح، ولا يبهت لونه مهما تكدّست فوقه طبقات العمر والتجارب.

كنتُ في سنّ المراهقة، حين رنّ الهاتف الأرضي في بيتنا ظهراً، لم يكن في البيت أحد غيري. رفعتُ السماعة، وإذا بصوتٍ أنثويّ دافئ يتسرّب إلى أذني، يسأل عن "ريما". لم تكن لدينا "ريما"، لكن القدر كان يعرف جيداً كيف يخطّ أول فصول الحكاية. تحدثنا لدقائق قصيرة، لكنها كانت كفيلة بإشعال نار لم تُطفأ لسنوات.

كانت كلماتها البسيطة تنساب كالموسيقى، وضحكتها الملائكية تكفي لأن تجعلني أرى الدنيا أجمل. كنتُ أفتعل الأعذار لأطيل الحديث، أضحكها مرة و أراوغ وأماطل وأتدلل مرة أخرى، حتى تحولت الصدفة العابرة إلى حبّ صادق، نسج خيوطه بين الهاتف الأرضي وقلوبنا الصغيرة التي لم تكن تعرف بعد ثقل وهموم هذة الدنيا.

ليالٍ طويلة عشتها على سطح بيتنا، أستلقي قرب خزان الماء،كنتُ أجازف في بعض الليالي بالنزول إلى تصوينة شباك غرفة الضيوف على ارتفاع طابقين، حيث كانت علبة وصل سلك الهاتف الواصل للمنزل. ثم أقطع سلك الهاتف الأرضي عن البيت بهدوء كي لا ينكشف أمري، وأتنفس همسها أحيانا حتى مطلع الفجر. كنت أشعر أنني أملك العالم كله، فقط لأنني أملك صوتها. لكن، كما هي حال كثير من القصص الأولى، لم يُكتب لها أن تستمر. مضت الأيام، وجاء نصيبها في زواج تقليدي، ثم رحلت إلى بلاد بعيدة، تاركة خلفها صدى الذكريات.

واليوم، وأنا أستعيد حكايتي، صادفت خبراً عن عاشق هندي غيور تسلّق عمود كهرباء فقطع اسلاك تيار الكهرباء عن قرية بأكملها لأن هاتف حبيبتي مشغول منذ وقت طويل! أضحكني الموقف كثيراً، وأيقظ في داخلي المقارنة: ذلك العاشق قطع الكهرباء عن قرية كاملة ليتحدث مع حبيبته، أما أنا، فكنت أكتفي بقطع سلك الهاتف عن بيتنا، لأبقى وحدي في الليل أتنفس صوتها تحت ضوء القمر.

وهكذا يبقى الفرق بيني والعاشق الهندي بسيطاً لكنه عميقاً: هو أغرق قرية كاملة في الظلام، أما أنا، فقد كنت أغرق وحدي في عتمة الحب الأول، "قصة أشبه بوصف نزار قباني والابنودي في أغاني عبد الحليم حافظ." ياله من حب … صغير في أفعاله، كبير في جنونه.