وجهات نظر

ثقافة الاستقالة من الحكومة… بريطانيا نموذجًا

ثقافة الاستقالة من الحكومة… بريطانيا نموذجًا


تشهد بريطانيا منذ أيام أزمات سياسية متلاحقة داخل حكومة حزب العمّال الحاكم بزعامة كير ستارمر، حيث اضطرت نائب رئيس الوزراء ووزيرة الإسكان أنجيلا راينر إلى تقديم استقالتها على خلفية فضيحة ضريبية ثبت تورطها فيها، في ضربة موجعة للحكومة الحالية التي تتعرض لتساؤلات حول نزاهة وزرائها ومدى التزامهم بالمعايير الأخلاقية، وذلك على الرغم من أنّه لم يمضِ على تشكيلها سوى عام واحد.

فقد كشفت التحقيقات المستقلة أنّ الوزيرة راينر دفعت ضرائب أقل من المبلغ المستحق عن شرائها شقة سكنية خاصة بها، مما دفع لجنة الأخلاقيات الحكومية إلى اعتبار ذلك الفعل إخلالًا بمدوّنة السلوك الوزاري، الأمر الذي قادها إلى الاستقالة فورًا من الحكومة، وما تبع ذلك من إحراجات سياسية لرئيس الوزراء العمالي.

هذه الخطوة، على الرغم من قسوتها سياسيًا، أظهرت أن ثقافة المساءلة في بريطانيا لا تستثني أحدًا، حتى ولو كان وزيرًا في الحكومة. فاستقالة الوزيرة راينر لم تكن حدثًا عابرًا، بل فتحت الباب أمام تعديل وزاري واسع أجراه ستارمر سريعًا، شمل حقائب سيادية أخرى مثل وزارتي الخارجية والعدل.

إن المشهد السياسي الحالي في بريطانيا يشير إلى أنّ هناك عوامل أخرى ساهمت في دفع الوزيرة راينر إلى الاستقالة، أهمها الضغوط الكبيرة التي تواجهها حكومة ستارمر منذ تشكيلها بسبب الانقسامات داخل حزب العمّال نفسه بين الجناحين الوسطي واليساري، بالإضافة إلى الانتقادات الشعبية المتكررة للحكومة جرّاء اتخاذها سلسلة من القرارات غير الشعبية، أبرزها تقليص المعونات الخارجية.

ناهيك عن الدور الدستوري الذي مارسته المعارضة النيابية، حيث استغلت هذه الحادثة للتشكيك في نزاهة الحكومة العمالية وقدرتها على إدارة دفة القيادة في بريطانيا. فهذه العوامل مجتمعة ساهمت في تحويل خطأ فردي ارتكبته الوزيرة إلى أزمة دستورية داخل الحكومة دفعت نحو استقالتها وإجراء تعديل وزاري واسع.

ويبقى التساؤل الأبرز حول الدروس المستفادة في الأردن من التطورات الحكومية التي شهدتها بريطانيا مؤخرًا في مجال إدارة الشأن العام، وأهمها تفعيل الرقابة المستقلة على الذمة المالية للوزراء وكبار الموظفين، وضمان عدم استغلال المنصب العام لخدمة مصالح مالية ذاتية لهم أو لمقرّبيهم.

وفي هذا السياق، نجد أنّ قانون الكسب غير المشروع لعام 2014 قد تضمّن نصوصًا وأحكامًا تسهم ـ نظريًا ـ في الحد من الفساد المالي والإداري في القطاع العام، حيث نصّ على إنشاء دائرة خاصة في وزارة العدل تسمى دائرة إشهار الذمة المالية، تكون مهمتها تلقي إقرارات الذمة المالية الخاصة بالوزراء والفئات الخاضعة لأحكام القانون وزوجاتهم وأولادهم القُصَّر خلال فترات زمنية محددة أثناء تواجدهم في الوظيفة العامة. كما يفترض القانون أن يقوم المكلّف بالإفصاح عن أي زيادة غير طبيعية في ذمته المالية بمجرد حدوثها، مع تقديم الأدلة والبراهين التي تبرر مشروعيتها.

فالكسب غير المشروع، لغايات القانون النافذ، هو كل زيادة كبيرة أو نمو غير طبيعي يطرأ على ثروة أو ممتلكات أي موظف لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياسًا إلى دخله المشروع.

إن تعزيز الثقة بهذه الدائرة يستلزم التفكير مليًا في إخراجها من ولاية الحكومة ممثلة بوزارة العدل، والدفع بها نحو الجهة صاحبة الاختصاص الأصيل في الرقابة على المال العام وحمايته، وهي هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، التي أثبتت كفاءتها في ملاحقة كل من تسوّل له نفسه التطاول على الأموال العامة.

كما يجب الاستفادة من الأزمة البريطانية فيما يتعلق بترسيخ ثقافة الاستقالة الطوعية عند ارتكاب المسؤول أي خطأ يمس الثقة العامة. فهذه الاستقالة لا تعني بالضرورة إدانته أو الحكم عليه بالحبس، بل تعكس احترامًا للعمل العام وتقديم المصلحة العليا على المنافع الفردية. فالثقة الشعبية بالحكومة ستزداد عندما يتحمل كل عضو فيها وزر خطئه ويبادر إلى الاستقالة طوعًا واختيارًا، بخلاف الحال إذا ما قرر التنكّر للحقائق الثابتة والتمسك بالمنصب، حيث ستضعف ثقة الرأي العام بالحكومة وبقدرتها على تحقيق معايير الشفافية والنزاهة.

أما الدرس الثالث فهو سرعة التعامل مع الأزمات السياسية والدستورية والجرأة في اتخاذ القرار الحكومي، إذ إنّ المبادرة الفورية من رئيس الوزراء البريطاني بالضغط على الوزيرة راينر لتقديم استقالتها، وإلحاق عدد من الوزراء المتأزمين بها، تظهر شخصية قيادية قادرة على إدارة الأزمات التي تحتاج إلى سرعة في اتخاذ القرار لا إلى التردد والتباطؤ الذي قد يفاقم المشكلات في بعض الأحيان.

إنّ الاستقالات التي هزّت الحكومة البريطانية كشفت عن نظام سياسي متماسك رغم العواصف، فالمؤسسات هناك قادرة على تصحيح المسار سريعًا وحماية الثقة العامة. في المقابل، يستطيع الأردن أن يستفيد من هذه التجربة عبر تطوير آليات الرقابة الوطنية وضمان استقلاليتها، والتعامل مع الأزمات بجرأة وسرعة. فالمجتمع الأردني يتطلع دومًا إلى مسؤولين يضعون المصلحة العامة فوق منافعهم الشخصية، ويثبتون أن المنصب العام تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا امتياز.

* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية