وجهات نظر

العروبة والإسلام بين سيادة غائبة وصوت مفقود في زمن التحديات

العروبة والإسلام بين سيادة غائبة وصوت مفقود في زمن التحديات

حين نفتح أعيننا على التجربة الأوروبية في بناء اتحاد متماسك وفاعل، ندرك حجم الهوة التي تفصلنا عن العالم المتقدم. أوروبا، القارة التي أنهكتها الحروب وتنازعت شعوبها قرونًا طويلة، استطاعت أن تُلملم جراحها وتعيد تشكيل ذاتها في كيان واحد اسمه الاتحاد الأوروبي. هذا الكيان لم يُلغِ سيادة دوله الأعضاء، بل أعاد صياغتها، إذ أصبحت السيادة الوطنية جزءًا من سيادة جماعية أكبر وأقوى. اليوم، تصوغ مؤسسات الاتحاد سياسات اقتصادية وأمنية وخارجية بقرارات مُلزمة، وتجعل من صوت أوروبا الموحد قوة يحسب لها العالم ألف حساب، قوة لم تكن لتملكها أي دولة أوروبية منفردة مهما بلغت من القوة والتاريخ.

وفي القارة السمراء، التي طالما نُظر إليها باعتبارها الأكثر هشاشة سياسيًا واقتصاديًا، نجد أن الاتحاد الإفريقي بدأ يشق طريقه نحو صياغة هوية سيادية جماعية. صحيح أن الطريق لا يزال مليئًا بالعقبات، لكن القارة الإفريقية أدركت أن العالم لم يعد يرحم الكيانات الصغيرة المتشرذمة، وأنه لا سبيل لمواجهة التحديات إلا بالعمل المشترك. ولذا أخذ الاتحاد الإفريقي يُعبر عن مصالح قارته أمام العالم، ويُكسب شعوبه شيئًا من القوة في مواجهة مؤسسات دولية كبرى يهيمن عليها الأقوياء. لقد أظهر الأفارقة أن السيادة ليست حائطًا صلبًا يُطوق الدولة بحدودها الضيقة، بل مفهوم مرن يمكن أن يتمدد حين تلتقي القيم والمصالح، ويمنح صوتًا جماعيًا أشد وقعًا من أي صرخة فردية.

لكن حين نُدير وجوهنا إلى عالمنا العربي والإسلامي، تتفجر الأسئلة الموجعة: أين منظمة التعاون الإسلامي؟ أين الجامعة العربية؟ أين ذاك الصوت الذي يفترض أن يعبّر عن أكثر من مليار مسلم ممتدين من جزر إندونيسيا وماليزيا في أقصى الشرق إلى شواطئ الأطلسي في أقصى الغرب، مرورًا بالباكستان وأفغانستان وإيران وتركيا والعراق وسوريا ولبنان والأردن والسعودية ودول الخليج واليمن ومصر والسودان وليبيا والمغرب العربي والدول الإفريقية الإسلامية جنوب الصحراء؟ هذه الرقعة الشاسعة، وهذا الثقل الديمغرافي والاقتصادي والحضاري، تحوّل في الواقع إلى جسدٍ مُنهك تتنازعه الانقسامات، بينما مؤسساته الجامعة تكتفي ببيانات إنشائية لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

لقد كشفت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على شعوبنا وأراضينا ضعف هذه المؤسسات وانعدام فاعليتها. من فلسطين التي تنزف يوميًا، إلى لبنان وسوريا اللتين تواجهان الاعتداءات والضغوط، إلى العراق واليمن اللذين أنهكتهما الحروب والتدخلات، والأمة بأسرها تقف عاجزة أمام تغوّل الاحتلال. أين الصوت الموحد؟ أين الردع؟ أين الموقف الذي يليق بتاريخ أمة قدّمت للحضارة أعظم إنجازاتها الفكرية والعلمية والإنسانية؟ إن صمت هذه المنظمات لم يعد مجرد تقصير، بل صار جريمة بحق الأجيال القادمة التي سترث أمة بلا هيبة ولا مكانة.

ما يثير الحيرة أن أوروبا التي تختلف شعوبها في اللغة والدين والثقافة والمصالح استطاعت أن تبني منظومة متماسكة تضع المصالح الجماعية فوق كل اعتبار. والأفارقة، رغم فقرهم وضعفهم النسبي، شرعوا يخطون الطريق ذاته. أما نحن، ورغم أننا نملك التاريخ والثروات البشرية والطبيعية، فإننا ما زلنا غارقين في نزاعاتنا الصغيرة، نُبدد طاقاتنا في صراعات عبثية، ونعجز عن بناء جبهة واحدة تدافع عن حقوقنا وكرامتنا.

وهنا تبرز الحاجة إلى استدعاء مبادئ الأخوة الإسلامية والنخوة العربية التي لطالما تغنينا بها في شعاراتنا وخطبنا، لكنها غابت عن واقعنا العملي. الأخوة ليست مجرد كلمات، بل التزام بالمصير المشترك، والنخوة ليست عاطفة وقتية، بل فعل يُترجم إلى تضامن حقيقي عند الشدائد. إن التهديدات التي تواجه أمتنا اليوم، وفي مقدمتها الغطرسة الإسرائيلية المدعومة من قوى استعمارية قديمة وجديدة، ليست تهديدات عابرة، بل تهديدات وجودية تستهدف هويتنا وحاضرنا ومستقبلنا. والمصالح المشتركة التي تجمع العرب والمسلمين ليست نظرية بل واقعٌ يلمسه الجميع: أمن الطاقة، وحدة الأسواق، التوازن الجيوسياسي، والتكامل الثقافي والحضاري. لكننا بدلًا من أن نوظفها في بناء قوةٍ جامعة، نُبددها في خلافات جانبية.

لقد آن الأوان لنقف وقفة مراجعة عميقة، ولندرك أن السيادة الحقيقية لا تُصان بالانعزال والانقسام، بل تُعزز بالعمل الجماعي المنظم. الاتحاد الأوروبي لم يتشكل بقرار عابر، بل بإرادة سياسية واعية وتضحيات مشتركة، والاتحاد الإفريقي يسير بخطى واثقة نحو ذات الطريق. أما نحن فما زلنا نراوح مكاننا، نستجدي الحلول من الخارج بينما الحل بين أيدينا. إننا بحاجة إلى اتحاد إسلامي وعربي حقيقي، اتحاد يُترجم الأخوة إلى قوة، والنخوة إلى فعل، والمصالح المشتركة إلى سياسات حقيقية تصون الأمة.

إن الدفاع عن فلسطين ليس واجبًا على الفلسطينيين وحدهم، ولا الدفاع عن لبنان أو سوريا أو اليمن شأن داخلي يخص تلك الدول، بل هو قضية وجودية لأمة المليار. وإن أي تهاون في هذا الواجب هو تهاون في الدفاع عن أنفسنا جميعًا. لقد أثبتت الوقائع أن العالم لا يصغي إلا للأقوياء، ولا يحترم إلا من يتحدث بصوت واحد ويُمسك بقرار جماعي نافذ.

دعوتي، بكل صدق وإلحاح، للمنظمات العربية والإسلامية أن تستيقظ من سباتها، وأن تعيد النظر في بنيتها وهياكلها وأولوياتها، وأن تتجاوز خلافاتها الضيقة. نحن بحاجة إلى أفعال لا أقوال، إلى مواقف لا بيانات، إلى إرادة جماعية تصنع المستقبل ولا تستسلم للحاضر. إن التاريخ لن يرحم عجزنا، والأجيال القادمة لن تغفر لنا صمتنا. فلتكن لنا في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي عبرة وعظة، ولنتعلم أن السيادة لا تُنتقص حين تُصان بالعمل المشترك، بل تتعزز وتترسخ، وأن صوت الأمة إن توحد لا يمكن أن يُقهر.