وجهات نظر

الأردن الداخلي ومسارات بناء الوجدان الوطني

الأردن الداخلي ومسارات بناء الوجدان الوطني


هل تضررت بوصلة الوجدان الوطني الأردني نتيجة هيمنة الآفاق العربية والنزعات القومية، والإلتفاف حول القضايا العربية الرئيسية والجامعة، المنطق يقول لا، فهي مسارات تتفق وتتوافق مع بنية الإنسان الأردني عبر التاريخ، ونتج عنها النهج الأردني الرسمي والشعبي، إذاً هي خصوصية وميزة وليست مثلبة أو نقيصة، وهو نهج متماشٍ ومتسق مع نهضة المشروع القومي العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر، وهو إيقاع عارم مرت به المنطقة العربية برمتها، شهدت فيه الأمة محطات نجاح وازدهار، وقدمت فيه أيضا خسائر موجعة، وحالات من الخذلات التي مازالت تصيب قلب الأمة بنزف لا يتوقف.

اليوم اضمحلت المشاريع الكبرى، وأصيبت الشعارات اللامعة بالوهن والضمور، بل والتلاشي أحيانا، تغيرت المدخلات والعوامل الفاعلة، وتبدلت النتائج والأحوال، ومفهوم الأمة الكبيرة من المحيط إلى الخليج تغير إلى حد كبير، وما يسمى بالأمن العربي الواحد والمتلاحم، لا وجود له على أرض الواقع، المرحلة مختلفة والإقليم قطع شوطا طويلا في التغير نحو تشكلات جديدة مغايرة، دول سقطت وأخرى تبدلت، وثالثة تحتفظ بالعنوان فقط، فمال حال القناعات والتوجهات القديمة؟ للأسف لم تتراجع وتفقد أثرها وتأثيرها فقط، بل صارت الهويات الفرعية والإنتماءات المجزأة الأعلى صوتا والأخطر حضورا، مما يهدد بتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، وهذا من شأنه أن يقود المنطقة لمنزلقات خطرة.

أردنيا فإن ما يطفو على السطح ينبيء بما يترسب في القاع، فالوجدان الوطني ليس مخضرا ويانعا عند الجميع، ومازال البعض يعاني من ضبايبة وعدم وضوح في الرؤية الوطنية أفقيا وعموديا، كما أن حالة من الإلتباس بين الوطني الخاص والعروبي العام تستشري هنا وهناك، فبعضهم يستكثر على الأردن أن ينظر إلى نفسه ويدقق في طريقه، ويحدد خطاها التي تنبع من مصالحه الوطنية العليا، ودون أن تتضاد مع المصلحة الإقليمية أو العربية العامة، والبعض الآخر يريد للأردن أن تكون ساحة لإستزراع مشاريع جهات خارجية ذات أجندات توسعية خاصة بها، وكأن الأردن مستنبت لتجارب زراعية لجهات لم تكن صديقة عبر تاريخ منذ آلاف السنوات، لكن جهات ما وأفرادا بعينهم ممن لم يستوطن في وجدانهم الأردن الوطن، يحاولون أخذ هذا الوطن إلى مناطق مرعبة، مقامرين به وبمستقبله وسيادته، دون أن يرمش لهم رمش.

لذا فإن الذهاب إلى تشييد مسارات تسعى إلى بناء وتعميق الوجدان الوطني، هو ضرورة بالغة الأولوية، من خلال تفعيل الثقافة بمستوياتها، والتربية بعمقها وفضاءاتها، وتمتين العقد الاجتماعي، وحماية الشباب وتعظيم دورهم، وأن يكون الوطن والمواطن في حالة تماهي حقيقية، مما يجعل من كل هذه الخطوات طويلة المدى، قاعدة أساسية لمسارات تحديث الدولة الأردنية سياسيا واقتصاديا وإداريا وقبل كل ذلك وبعده لابد من مسار التحديث الثقافي، وتحقيق نقلة اجتماعية ثقافية، تكرس مفهوم الإنتاج، وتقلل من ثقافة الريع، فتعمق من البناء الوجداني الوطني، مقابل حالة السيولة الوطنية وضبايبة الموقف والإنتماءات، فإذا تحقق كل ذلك ولو بمزيد من الوقت، فإن هذا البناء الوطني الحقيقي هو من يسهم في حماية الوطن من أي مخططات تستهدف أمنه ومستقبله وسيادته، ويجعله سندا حقيقيا للقيادة التي تجد أن الأردن القوي قوي بذاتها وتماسكه وإيمانه بنفسه وثقته الوطنية التي لا تتزعزع.