وجهات نظر

وقفة للبحث عن أجوبة

وقفة للبحث عن أجوبة

وكأن غزة قطعة من الغرب، وكأن أصول أهلها تعود إلى هيلسموري الساحلية في جنوب السويد، أو غوتنبيرغ في مقاطعة فاستر غوتلاند السويدية، أو من آرهوس؛ ثاني مدن الدنمارك، لعل أجداد أهل غزة لهم صلة خؤولة مع أهل مدينة فيلنيوس في ليتوانيا، أو لعل بعض أهلها ينحدرون من أصول أندلسية، ربما ذلك ما يبرر تلك العيون الخضر والشعر الأشقر «الكيرلي» لصبيان غزة وفتياتها الجميلات، وربما كانت أصول بعضهم من أوتريخت الهولندية، أو من أمستردام، أو حتى لاهاي في دِن هاغ حيث «الجنائية الدولية»، ولعل بعض الأجداد ظلوا في الأرض من مخلفات الأتراك في الحقبة العثمانية، أو أن بعضهم كان من مخلفات حجيج من ماليزيا وأندونيسيا قدّسوا حجّتهم في بيت المقدس، وهُجّروا إلى غزة عام 1948 مع المُهجّرين.

لماذا يتظاهر الناس في كانيبرا وسيدني في أستراليا، وفي ليون، ومارسيليا، وباريس، وفي لندن، وكوبنهاغن، وبروكسل، وفيينا، وبرلين، وأوسلو، ومكسيكو سيتي، ووارسو في بولندا، ومدن إيطاليا، واليابان، وحتى في نيويورك، ولماذا يقف طلبة جامعات الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وألمانيا وبريطانيا كجدار صلب في مواجهة إدارة جامعاتهم مطالبين بوقف التعاون مع حكومة الكيان، ووقف كافة أشكال الدعم لإسرائيل المحتلة، بل يطالبون بفرض عقوبات على حكومة الكيان، ويهتفون: فلسطين حرّة من البحر إلى النهر.

لماذا يواظب هؤلاء في عواصم الغرب الأبيض على الخروج بانتظام، ويعرّضون أنفسهم للمساءلة والاتهام والاعتقال دون خوف ولا وجل، ولماذا تُبحِر أساطيل الحرية من عواصم غربية، ولم تبحر يوماً سفينة خجولة من عاصمة عربية، إنها مجرد أسئلة أجزم أنها موجودة في عقل كل عربي، وكل قارئ لهذه المقالة، لماذا، ولماذا، ولماذا يطرد أصحاب المطاعم الإسرائيليين ويرفضون وجودهم في بلادهم.

أحد الأجوبة، أن ما رأته أعينهم من قتل للأطفال، ومن تجويع للسكان، أرعبهم، وآلمهم، وحرمهم من النوم. ما الذي كبّل الشعوب العربية - باستثناء شعوب عروبية معروفة على رأسها الشعبين الأردني واليمني - ولماذا لم تستطع الدول العربية الرسمية أن تجتمع على موقف صلب موحّد تتوجه به إلى واشنطن بإصرار لوقف العدوان، بل مجزرة اللحم، ومسلخ الأطفال، ومستنقع الدم المجبول باللحم البشري والطحين، وتجويع أهل غزة حتى الموت، ولماذا يبدو العربي كأن على رأسه الطير، ولماذا يهرب إلى الصمت كموقف يدافع عنه إذا حشرته الأسئلة.

أهل غزة يخوضون معركة بالنيابة عن الأمة، وسيثبت التاريخ أن أهل فلسطين خاضوا على مدى تاريخهم الحديث منذ عام 1948، معركة إلهاء للعدو الصهيوني من الاعتداء على دول خارج حدود فلسطين، ولو سلّم الفلسطيني، ورفع الراية للمحتل الغاصب، لكان الحال أسوأ مما نحن عليه اليوم، ولولا التجربة القاسية التي خاضها الكيان على الجبهة الأردنية في معركة الكرامة الباسلة عام 1968، والهزيمة التي لحقت به على الجبهة المصرية في حرب عام 1973، لتمادى كما يتمادى اليوم في جنوب سوريا، وفي جنوب لبنان.

وأعود إلى لماذا، لماذا هذا الخنوع، ولماذا الصمت، ولماذا وصل الحال إلى ما وصلت إليه هذه الأمة من هوان ومذلة، كأن ضبعاً قد ضَبَعها، أرعبها، كبّلها، أفقدها الإحساس، سلب منها قواها، وعزمها، ومعاني الكبرياء، ومن يهُن يسهل الهوان عليه.

لو كان لدي إجابات عن الأسئلة لما بخلت بالإجابة، لكني عاجز عن الفهم، كعجز هذه الأمة عن الفعل، أطرح أسئلة فقط، لكن أحداً يجب يوماً أن يجيب، وأن يمنح الجيل القادم أملاً في أن يتبدل هذا الحال، وأن يتوقف هذا النزيف الذي يحصد أطفالنا بلا رحمة، ويجوِّع غزة حتى الموت، ويدمرها حتى آخر بيت، ويعرّض أهلها للتهجير «طوعاً» أو قسراً، وما يحدث في غزة، سيحدث - لا محالة - في الضفة الغربية، وربما يكون أكثر بشاعة وقسوة، وما يجري على الأرض في هذه الأيام، يشي بما سيجري لأهل فلسطين في القادم من الأيام، فهل تصحو هذه الأمة من سباتها العميق، ونومها الذي يشبه نوم أهل الكهف، وليس لدي جواب حتى عن السؤال الأخير، ورحم الله نجيب محفوظ يوم سأله يوسف القعيد عن أحوال مصر فقال: «هيّ بِتُعاني»، فسأله القعيد: وكيف برأيك يمكن لها أن تخرج من هذه الحالة؟ فقال نجيب: «إنت فاكر إني بعرف إزاي ومَقولتِش».


الدستور