وجهات نظر

الأمير الحسن بن طلال ورسالة النهضة والتنوير الهاشمية

الأمير الحسن بن طلال ورسالة النهضة والتنوير الهاشمية


قراءة في الفكر الهاشمي تظهر للعيان بأن فلسفته تقدم رسالة تاريخية حضارية إنسانية مضمونها النهضة والتنوير لأمتنا وشعوبها ، وكلاهما عناصر أساسية لبناء وتنمية المجتمعات وتقدمها، خاصة اليوم وفي ظل ما نواجهه من تحديات صعبة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، تتطلب الوعي بخطورتها وفهم طبيعتها أولاً، ثم الإرادة الجماعية والتشاركية في الحلول لمواجهتها وتخطيها ثانياً ، وصاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله ، لطالما شكل فكر سموه مُحيطاً جامعاً ثرياً برزت فيه القدرة على رصد التحديات والتنبيه بمخاطرها وتداعياتها والدعوة المستمرة من سموه لمأسسة الجهود وتنظيمها ، ولأن فكر سموه يحتاج للكثير من الدراسات للوقوف على مضامينه وأبعاده الفكرية وهو أمر يصعب اختصاره في هذا المقال، فإنني سأقف هنا عند بعض ملامحه، وتحديداً لقاء سموه مع الطلبة والقيادات الاكاديمية في جامعة الحسين بن طلال والذي أجرته مع سموه وحدة الإنتاج التلفزيوني في الجامعة .

ومن هذا المنبر الجامعي كانت دعوة سموه مؤخراً للمهتمين والمعنيين في جامعة الحسين بن طلال وبالتنسيق مع غيرها من الجامعات بإنشاء مركز جامعي بين الجامعات الأردنية يهتم بالدراسات الراهنة أو أحداث الساعة ، بمعنى إقامة مركز بحثي متخصص تتبناه الجامعات وتتشارك في ادارته ودراساته ، يُعنى بالقضايا الراهنة المعاصرة على اختلاف مجالاتها وأشكالها، وذلك بهدف وضع كل ما يلزم من الاستراتيجيات والخطط الكفيلة بمواجهتها، ونظراً لأهمية الشباب والأجيال في مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية وانعكاسها عليهم ، جاءت رسالة سموه لهم ومن جامعة الحسين بن طلال بتوجيههم ومؤسساتهم القائمة على رعايتهم وتعليمهم بالإضطلاع بدورهم المأمول في النهضة والتنوير ، فهم صناعها والمدافعين عنها .

ومن المعروف أن سموه كعهد الهاشميين ينظر للأردن على امتداد قراه ومدنه وباديته بوصفه وطناً واحداً عزيزاً على الشعب والقيادة على الدوام، يواصل الهاشميون أمانة قيادته ورعايته والحرص على نهضته وتطوره، فكانت رسالة سموه للشباب والأجيال نداء حق يصدح للوطن من معان ، هذه المدينة الأردنية الهاشمية التي كانت محطة مهمة في انطلاقة الثورة والنهضة العربية الكبرى، وفيها كان استقبال أعيانها ورجالات وأحرار الاردن وبلاد الشام لجده الهاشمي الملك المؤسس المغفور له الملك عبد الله الأول عام 1920م ، ومنها صدرت جريدة الحق يعلو عام 1921م ، والتي كانت المنبر السياسي والثقافي والفكري الهام لأبناء الوطن والأمة ، واليوم يأتي نداء سموه الفكري الشامل وعلى ذات النهج العريق والثوابت الاردنية الراسخة من معان محطة النهضة والتنوير الهاشمي منذ تأسيس إمارة شرق الاردن ، للتأكيد على الموقف الهاشمي المستمر بضرورة وحدة الأمة أمام أي اعتداء أو فتنة تتربص بها ، لتتجاوز بلداننا في المشرق العربي إرث مأساة سايكس بيكو عام 1916م وسان ريمو عام 1920م وما خلفته للأسف من تجزئة وتشرذم ، فلا شك أن وعي سموه بتاريخ شعوبنا والتذكير به وبالانجازات الهاشمية المساهمة فيه، يؤسس عملياً لفهم عميق واستراتيجية هاشمية مضمونها كما قال سموه الاهتمام الهاشمي بإعادة بناء الجدار العربي والإسلامي وتقويته أمام كل طارىء يهدد بنيانه ، وهذه السردية التاريخية الواقعية تهدف لتنبيه الأجيال وفي الوقت نفسه دعوتها بضرورة البحث عن الجوامع المشتركة بين الأمة ، والعمل على نبذهم لكل ما قد يؤدي الى تمزيق مجتمعاتنا وتطلعاتها المستقبلية بالتنمية والتقدم الحضاري ، كما دعى سموه الى الابتعاد الاعلامي عن أي مصطلحات سلبية من شأنها خدمة الكراهية وبث الفرقة المذمومة .

لذا يأتي لقاء سموه مع الفعاليات الطلابية في جامعة الحسين بن طلال في ظل ما نشهده والعالم من أحداث متسارعة في المنطقة، وفي مقدمتها الانتهاكات والاعتداءات والجرائم الاسرائيلية ضد أهلنا في فلسطين المحتلة من البحر الى النهر بما في ذلك حرب الابادة والعدوان المستمر في غزة قبل وبعد اكتوبر عام 2023م، ويتضح من سياق طرح سموه لما يجري من وقائع احلالية اسرائيلية ادراك سموه الحكيم المستشرف للمستقبل مدى الاثر السلبي لانعكاسات سياسة الكيل بمكيالين والانحياز لاسرائيل من بعض القوى بخلاف ما نلاحظه من الموقف الغربي تجاه الحرب الروسية الاوكرانية القائم على المصالح المادية لا على السلام والامن والنهضة في المنطقة والعالم ، ولذلك يلفت سموه هذه الاجيال الشابة لطبيعة ما يجري من خطر التهديد بتهويد واسرلة مدينة القدس ، وسياسة الاستعمار ومخططات الاستيطان فيها ، ومنها مؤخراً مخطط استيطاني لعزل مدينة القدس عن الضفة الغربية ، والذي يشمل بناء الاف الوحدات الاستيطانية في المنطقة(E1)، وهو ما يُعدم وينهي حل الدولتين المجمع عليه والمطالب به دولياً ، ومن المعلوم للقاصي والداني أن التضحيات الاردنية وفي مقدمتها الهاشمية من دماء شهداء وجرحى الجيش العربي وشهيد الاقصى المغفور له الملك عبد الله الاول تعطر ثرى فلسطين والقدس، وهي التي جعلت من الضفة الغربية والقدس الشرقية قضية حيّة في المحافل الدولية وفي أذهان الاجيال لم يستطع الاحتلال محوها وتهويدها في حرب عام 1948م ، وبالرغم من جرائم الاحتلال اليوم الذي يستخدم كما يقول سموه فيها الاسلحة الفتاكة وفهرس التعسف في غزة بما فيه من جرائم الابادة والقتل وزيادة حدة الفقر والحرمان .

ان خطاب سموه للشباب ولكل أبناء وطننا وأمتنا يأتي تجسيداً لمسيرة الاباء والاجداد من الهاشميين، فهو تأكيد لخطى رسالة الثورة العربية الكبرى ونداء المغفور له الشريف الحسين بن علي للأمة بالحرية والاستقلال والوحدة ، وترسيخاً لجهود جده المغفور له الملك المؤسس عبد الله الاول و والده المغفور له الملك طلال بن عبد الله الذي حرص على مأسسة واصلاح التعليم وتشريع الدستور ، ومروراً بجهود شقيقه المغفور له الملك الحسين بن طلال الذي أكد على قيمة المواطن ومركزيته بعبارة ( الانسان أغلى ما نملك)، فهو كما يرى سموه أغلى من المعادن والماديات التي تسبب الصراعات والحروب المستمرة ، على أن سموه يؤكد أن الانسان المعطاء هو أغلى ما نملك اليوم ، فالمواطنة الصالحة النافعة للعموم والهوية الراسخة قوامها العطاء والبذل في سبيل النهضة والمصلحة العامة .

إن المحيط بكل مكوناته من الماء والطاقة والغذاء هو من القضايا العالمية التي يدعو سموه في كل المحافل الدولية والاقليمية الى ضرورة الاهتمام بها والحفاظ عليها لضمان استدامتها للأجيال ، فقد أكد سموه عليها وعلى الميثاق المعروف بالميزان ( عهد من أجل الارض) الذي قام بصياغته عدد من الخبراء المسلمين كمشروع أممي للمحافظة على البيئة مستمداً مواده وبنوده من الايات القرآنية الكريمة والتي تدعو لحماية ورعاية البيئة (المحيط) وهو ميثاق قد اعتمده واعترف به برنامج الأمم المتحدة البيئي، ويأتي هذا الطرح في سياق بيان سموه للشباب أن القضايا الراهنة أو أحداث الساعة تفرض نفسها على مجتمعاتنا وبشكل يستوجب علينا مواجهتها بالفكر والعلم والنقد الايجابي البناء لا الهدام والعمل التشاركي، موضحاً سموه أن الجامعات هي مراكز علمية معنية بالاهتمام بها ، خاصة ان للجامعات رسالة ثنائية فكرية وانمائية .

إن المنصت لمقابلات سموه والمطالع لمقالاته ومؤلفاته يدرك أنه وبكل موضوعية أمام فكر هاشمي جامع يبحث في الكثير من التفاصيل المتداخلة ويستخلصها بشكل تكاملي ، فكر أصيل يحتوي على مفاهيم عالمية تشمل الديمقراطية العادلة والكرامة الانسانية والتشابك الحضاري وتعزيز القواسم المشتركة ، الى جانب طرح سموه للكثير من المبادرات الانسانية بما فيها انشاء قواعد بيانات ومراكز معلومات اقليمية تحرص على أنسنة الاحصائيات وعدم حصرها بأرقام ونتائج جامدة لا تقيس عملياً حاجة الانسان وضرورياته المرحلية، كذلك دعوة سموه المتكررة لانشاء صندوق أو مؤسسة دولية للزكاة والتكافل الانساني ، وهذا الفكر الهاشمي في مدرستهم بل جامعتهم العالمية القائمة على الاخلاص والعطاء والمواطنة والانسانية ، يجسدها اليوم ونستلهم قيمها ونهجها من التوجيهات السامية لجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ، حيث يقود جلالته برؤيته الهاشمية الحكيمة مسيرة الاصلاح والبناء الوطنية وجهود اغاثة ومساندة اهلنا في غزة والقدس وفلسطين .