وجهات نظر

الفقاعة التي تبتلعنا

الفقاعة التي تبتلعنا

كأننا نعيش في كرنفال صاخب. صور تتزاحم بلا ذاكرة، عواطف مهدورة تُباع وتشترى كبضاعة في سوق قديمة، وضحكات إلكترونية تتبخر قبل أن تلامس وجوهنا. نحن نمرر أيامنا وندحرجها بلمسة إصبع، مثل قارئ يقلب كتابا لا ينوي قراءته، ومع إصراره ألا يفوّت سطرا واحدا. فأي عبث هذا الذي يجعلنا نستهلك كل شيء، ولا نمسك شيئا؟.

لم تعد السوشيال ميديا أداة للتسلية، بل منظومة تعيد تشكيل وعينا ببطء ودهاء. وقد نبه «أمبرتو إيكو» منذ زمن إلى خطرها حين قال إنها منحت الكلام لفيالق من الحمقى، ممن لم يكن لصوتهم وزن خارج جدران بيوتهم، فإذا بهم يتحدثون إلى العالم كأنهم فلاسفة حكمة وعلماء ممتلئون. لكن ما هو أخطر من هذا الضجيج ذلك الذي تحدثه بنا من شقوق داخلية، تجعلنا نصدق الشيء ونقيضه معا، كما وصف هذه الحالة «جورج أورويل».

هكذا صرنا نعيش انقساما معلنا: نلعن الانحلال ونحتفي بأناقته، نذرف الدموع على مقدساتنا ونصفق لإهانة مقدسات غيرنا. نستنكر الفضائح الأخلاقية ثم نفتش عن روابطها.

لسنا منافقين بالمفهوم التقليدي، بل أسرى حالة معرفية مشوّهة نتبناها طواعية، حتى غدا التناقض جزءا من هويتنا اليومية.

الخوارزميات لا تساعدنا على الخروج، بل تكرّس عزلتنا. هي تفهمنا جيدا، لكنها لا تهتم بإنقاذنا. تمنحنا ما نحب، لا ما نحتاج. تغلق علينا الفقاعة وتهمس: أنت على حق. وهكذا نصبح انعكاسا لأوهامنا، نعيش داخل مرايا ناعمة لا تعكس سوى رغباتنا الصغيرة.

في هذا الضجيج المتأجج، تضيع القدرة على الشك، على طرح الأسئلة التي تحرّرنا: من أكون؟ ماذا أصدق؟ وأي لحظة بدأت أخون نفسي فيها؟.

ربما لا نحتاج إلى فلسفات كبرى ولا إلى وصايا مطولة، ولا إلى مرافعات، بل إلى لحظة صدق صغيرة. أن تترك هاتفك جانبا، لا كاستراحة عابرة بل كمواجهة مع ذاتك. أن تصغي للصوت الذي ظل يهمس داخلك حتى وإن غطيته بالنقرات والتمريرات.

حين تمنح نفسك هذه الدقيقة الصافية، ستدرك أن البوصلة الاصيلة لم تنكسر ولم تضع، بل اختبأت كي لا تتلوث بالضجيج. عندها يشتعل المعنى في حياتك وتكتشف أن النجاة لم تكن يوما في الخارج، بل في ضوء داخلي يعرف طريقه دائما، مهما حاولت الشاشات أن تغطيه.

"الدستور"