وجهات نظر

محورية الأردن .. رسوخ رغم التحولات

محورية الأردن ..  رسوخ رغم التحولات



كما عانى الأردن من موقعه الجيوسياسي ولايزال، فإنه حافظ في الوقت نفسه على دوره المحوري في أكثر من مسار، نعم الموقع الجغرافي والحدود السياسية في محيط لم يعرف الاستقرار أوجد تحديات ومخاطر، وشكل عبئا ثقيلا على الدولة الأردنية وعلى مسيرة التنمية في بعض المفاصل، لكن الأردن عرف كيف يستثمر مميزات هذا الموقع جغرافيا وجيوسياسيا، لم يعد بالإمكان تجاهله أو التجاوز عنه في أي مسار عام في المنطقة، سواء في السلام الشامل والعادل أو بناء منظومة أمنية إقليمية، أو تشييد مشاريع اقتصادية كبرى كسكك الحديد العابرة للحدود، ومشاريع الربط الكهربائي، وأنابيب تصدير النفط والغاز، ناهيك عن الطرق البرية والربط التجاري البيني والدولي، خاصة إذا ما استتب الوضع في سوريا، وتم تفعيل الشراكة مع العراق ومصر والسعودية.

حاولت إسرائيل التقليل من التأثير الأردني إقليميا، خاصة فيما يتعلق بالدور والمواقف الأردنية المبدئية من القضية الفلسطينية والوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية في القدس، وهو دور تاريخي ومواقف لا تتبدل أوجدت ضيقا ومقاومة شرسة من الإسرائيليين، فحاولوا ويحاولون جهادين إضعاف هذا الدور، ومجابهة المواقف الأردنية الرافضة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال إلغاء حل الدولتين والتهجير، لكن السنوات الأخيرة كشفت للجميع صلابة الموقف والحالة الأردنية، وفشل كل الجهود الرامية للضغط متعدد المسارات على الأردن، لإخراجه من دائرة التأثير في القضايا الإقليمية الجوهرية، فلقد تبين رسوخ هذا الواقع الأردني، عندما واجه العالم العربي أكبر فوضى في تاريخه الحديث خلال فترة " الربيع العربي " فوقف الأردن في وجه العاصفة بهدوء وأناة، ودون مواجهة أو عنف، وهذا كان أعمق من مجرد امتحان لمؤسسية الدولة الأردنية وقدرتها على حل مشاكلها، وتحديث مساراتها بشكل مستمر.

الثورة السورية وضعت الأردن في عين العاصفة كما هو قدرها دائما، لكنها لعنة الجغرافيا ومميزاتها في الوقت ذاته، فتوضح الدور المحوري للأردن بشكل أكثر أهمية، ليس فقط لارتباطه العضوي بالقضية الفلسطينية، بل هو ملتقى الطرق في المنطقة ومفترقها، فكان له فعاليته الكبيرة في تلك المرحلة، واليوم يظهر الأردن كبيضة القبان في الأحداث الأخيرة في الجنوب السوري، فيكون محرك الحل ومفتاح التهدئة، وصاحب الخبرة والثقة لدى جميع الأطراف، هو الدور ذاته مع فارق الظروف والأوضاع مع العراق خلال الحرب مع إيران، وحرب الخليج الأولى والثانية وما بينهم من حصار قاسٍ، هو ذات الدور في الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، وفي الحروب على غزة حتى يومنا هذا، والمستقبل هو ابن كل هذا التاريخ الثري.

هذا الرسوخ المستمر رغم كل ما مر به الإقليم من تحولات وانقلابات وتبدلات، لا يتنافى مع أن هذا الدور الأردني تأثر هنا وهناك لفترات زمنية قصيرة، لكنه سرعان ما يسترد عافيته، ويظهر من جديد ليس بحثا عن دور ما، بل كضرورة تفرضها الأحداث، وتستدعي حضورا وتحركا أردنيا تحت المظلة العربية وكثيرا ما يكون ذلك بطلب عربي / دولي معلن أو غير معلن، وهنا يتجلى الملك القائد، الذي يعرف كيف يسوس هذا الدور، وكيف يعيد له زخمه وعافيته بفضل حنكته السياسية وخبرته في الإقليم ومكانته العالمية، إذ يتميز بالحكمة والفهم العميق لواقع وتحولات المنطقة، وجلالته مسموع الكلمة في الغرب نظرا لمصداقيته العالية وجرأته في المواجهة، وسعيه الدائم لتغليب العقل والمنطق في الدفاع من المصالح الوطنية والعربية، وعلى رأسها قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

هذا الرسوخ والوضوح، والدور العابر للمراحل الزمنية، يتعرض دائما للتشكيك ومحاولات التقليل من شأنه وأثره، وللأسف من الداخل أكثر من الخارج، فهذه الفئة التي تأتمر بأمر ولاة المصالح من الخارج، والتي تخضع لسلطة الممولين أصحاب المشارع التوسعية والتخريبية، هؤلاء لم يقرأون التاريخ جيدا، ولا يعرفون أن الحق يصبر على الضيم ويتحمل ألم جرح الكف لكنه ينتصر دائما، وأن التاريخ أيضا يوثق تآمر الخونة والباعة وأصحاب الولاءات المدفوعة والحاقدة، ويبقى الأردن صافيا مثل ماء النبع، مباركا مثل زيتونة يكاد زيتها يضيء.