وجهات نظر

حين كان للحياة رائحة

حين كان للحياة رائحة


للحياة رائحة، لا تُشم فقط، بل تُحس وتُستذكر. إنها رائحة الزمن الجميل، زمن آبائنا وأجدادنا، الذي نتتبعه في الحكايات والصور، ونتحسر لأننا لم نعشه.

فهل للزمن فعلاً رائحة؟ وكيف تكون؟

رائحة الود والحب، ورقيّ الجمال، وعبق المكان من هواءٍ وماءٍ وزرعٍ وعطور.

عبق الشاي المعطر، والقهوة بالهيل، ورائحة الجدات… إنها حياةٌ كانت تُعاش برائحة الروح.

كانت رائحة القرب… قرب الجيران الذين كانوا عائلةً ثانية. كانوا يقاسمون الأفراح قبل الأحزان، يراقبون الأطفال كأنهم أبناؤهم. كانت رائحة الثقة التي تُبنى بكلمة، والعرفان الذي لا يحتاج إلى عقودٍ ولا ضمانات.

رائحة الاكتفاء بالقليل، والفرح باليسير. أمسيات طويلة تحت النجوم، تُنسج فيها الحكايات، وتُحلّق الخيالات بعيداً عن صخب الشاشات. الوقت كان يتسع للحديث، للصمت، للوجود ببساطة.

رائحة المشي المنتصب، والعمل الشريف الذي يُغني عن السؤال. التمسك بالقيم كدرعٍ واقٍ، واحترام الكبير، ورحمة الصغير. المجتمعات كانت تدرك أن “الوجه” أغلى من الكنوز.

رائحة “الفزعة” و” الوقفة” و”الزايرة” و” المعزية”. الجار الذي لا ينام جائعًا، والبيوت المفتوحة للضيف كأنها بيته. المشاركة كانت واجبًا مقدسًا وليس مجاملة.

أقوى العطور وأكثرها حنينًا كانت عبق التراب بعد المطر. الأرض العطشى تتنفس بعد الغيث، تفوح منها نفحات تختلط برائحة النباتات الصحراوية كالشيح والقيصوم.

هواءٌ نقي، بارد في الشتاء، معتدل في الصيف قبل شروق الشمس، يحمل غبار الصحراء الناعم وهمس يوم جديد.

رطوبة باردة من جدران الآبار، وهدير الماء في السواقي يروي البساتين، يحمل رائحة العشب والنقاء.

دفء ليالي الشتاء كان يُعبّر عنه بدخان الحطب، وسط حكايات الجدات، وأصوات القهوة على النار.

البخور والعود، دخانٌ يعلَق بثنايا الثوب والبشت والستائر، يملأ الجو احتفاءً بالضيف وتحضيرًا للصلاة.

عبق الهيل يختلط برائحة القهوة المحمصة، إيذانًا بالكرم، ورائحة الاجتماع والتواصل.

خبز الرقاق يملأ البيت ويجذب الجيران، رائحة الخبز الساخن من التنور الحجري تسكن الأنفاس.

أريجٌ ينتشر من أفنية البيوت، ورد وياسمين ونعناع، ينعش المساءات ويُسكن الأرواح.

خشب الساج والجلود في السوق القديمة، حيث المشربيات والنعال والسروج تُصنع يدويًا.

بهارات وأعشاب تتصاعد منها روائح الزعفران، الهيل، والكركم، والقرفة. لوحةٌ عطريةٌ ساحرة.

رائحة حلوة تملأ الهواء في موسم قطاف التمور، رطبٌ ناعمٌ تعبق به البساتين والأسواق.

زيت الزيتون والصابون اليدوي، والزيوت التي كانت تُستخدم للطبخ والإنارة، كلّها تنضح بعطرٍ تراثيٍّ فريد.

رائحة الورق القديم والحبر، في المكتبات الخاصة وحلقات العلم، تبعث رائحة الحكمة والتأمل.

رائحة الغسيل لتنظيف الغترة والشماغ، وفساتين الأطفال ورائحة الحناء في المناسبات والأفراح كانت لا تُنسى.

الزيوت العطرية من عنبر وورد ومسك، يُحضَّر خصيصًا للأعراس والأعياد، يترك أثره في الذاكرة والمناسبات. ورائحة كعك العيد والمعمول الذي تنبثق منه رائحة ماء الورد وماء الزهر والحلبة والحوائج الطيبة.

عبير المولود الجديد الذي يبهج قلوب الجيران والأقارب، ويتراقص حوله الأطفال بأهازيجهم وأغانيهم البريئة.

عطر الأرز والصنوبر وعطر خشب الصندل الذي يمتلئ به الفضاء، يحمل الانتعاش والفرح بين الحقول والحدائق.

عبير الحنان الذي يسكن في أحضان الأمهات، ورائحة التضحية التي تتجلى على جبين الآباء، ورائحة الخوف التي تتسلل إلى قلوبهم تجاه أولادهم، تلك الروائح التي تنبعث من كل كيانهم. ورائحة الجدة، التي لا تضاهيها أي رائحة، فهي كنز لا يعوضه شيء في هذه الدنيا.

رائحة الأرض والمطر والبحر والنهر

عبير البرتقال المتصاعد من مواقد الحطب في ليالي الشتاء القارص،

وعطر الزهور والورود المتفتح في بهجة عيد الربيع،

ورائحة الأعياد التي تتداخل فيها نكهات القرفة والزنجبيل مع حلاوة السكر البني.

وعبق الكتب المدرسية القديمة الذي يلتصق بالذاكرة، كأن أوراقها المُصفَّرة تنفثُ سحراً من تراب الزمن وحبر الأيام الأولى. تختلط مع رائحة دفاتر الخط - ذات السطور الزرقاء التي احتضنت كفاً صغيرة تتعلّم رسم الحروف - بنسيم الفجر البارد في ساحة المدرسة، وقعقعة حطب "الغضاء" المُتدفئ به في الصباحات الشتوية. وكأنّ روائح الطفولة تُحاكي بعضها: عطر التربة الرطبة بعد أمطار الريف، ودخان خشب "السمر" المتصاعد من موقد القرية، ودفء يدا الأم، وهي تعجن عجين الخبز، أو تزيّن الكعك قبل الأعياد. حنيناً يذوب في القلب كقطرات ندى من عطور على أوراق الزمن الغابر."

رائحة زوايا المدن العتيقة وحوانيت الأسواق الشعبية بين المباني التراثية حيث تمتزج الروائح حتى لا تعرف هويتها، ولكن المكان نفسه له رائحة وكأنها تنبعث من العواميد والأركان تروي حكايات من مروا بها ولو مروراً.

رائحة الزمن الجميل، واقعية ومجازية، فهي رائحة الانتماء.

انتماء إلى الأرض، للمجتمع، للقيم التي ورثناها.

رائحة الوقت الذي كان له طعم، وللمسافة فيه معنى، وللإنسان فيه مكانة لا يُحجبها زحام ولا تكنولوجيا.

قد لا تكون تلك الأيام كلها “جميلة” بالمعنى المطلق، لكنها حملت نقاءً إنسانيًّا لا يتكرر.

وربما، حين نزرع زهرةً في حديقة بيتنا، أو نصغي إلى قصة من جدٍّ حنون، نعيد شيئًا من عبق ذلك الزمن إلى حاضرنا.

فالرائحة لا تموت، طالما القلب حيٌّ بالشوق والذاكرة.

الزمن الجميل، في جوهره، ليس حقبة مضت… بل هو قيمٌ خالدة، علينا أن نحافظ على عبقها في قلوبنا وسلوكنا.