وجهات نظر

عندما تحجب السياسةُ الناسَ والحكايات

عندما تحجب السياسةُ الناسَ والحكايات


تحلّ السياسة ضيفاً ثقيلاً على بيوتنا ومجالسنا ومقاهينا. ينسى كثيرون أن العالم أوسع وأن خلف الجدران الإسمنتية للسياسة ثمة حكايات لم تُروَ بعد، لوجوه عادية تبحث في اشتغالاتها البسيطة عن ضوء في نهاية نهار مرهق.

صحيح أن السياسة ما تزال تتسلل إلى مفاصل حياتنا اليومية، من فواتيرنا إلى هواتفنا، ومن أحاديث المقاهي إلى الشاشات. لكنها، برغم كل ضجيجها، ليست كل الحياة. بل لعلنا نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نأخذ خطوة للخلف منها، لنفسح المجال لما هو أكثر إنسانية وصدقاً.

نعم، نعيش وسط أحداث عاصفة وخطيرة، وربما تؤثر فعلياً على حيواتنا الشخصية وترسم ملامح مستقبلنا أو على الأقل تستحوذ على انتباهنا وتشحننا بالغضب أو القلق على مدار اليوم. لكن الحقيقة أن هذا الانغماس المستمر لا يحمل خلاصنا. فالمبالغة في تتبّع الحدث وتفاصيله لا يُصلح السياسة ولا يغير خرائط النفوذ، بل يُتلف حياتنا الأخرى: علاقتنا بالبيت، بالذات، بالعالم الصغير الذي يمكننا أن نكون فيه منتجين وفاعلين.

نحن، ببساطة، لسنا صُنّاع القرار في موازين الكون. لكن بوسعنا أن نخلق من يومنا مساحة أكثر استقراراً، وأكثر قرباً من حياة البشر كما ينبغي أن تكون.

في فضاء هذا العالم الرقمي المتسارع، نحتاج أن نُسكت قليلاً ضجيج محللي الخرائط الجيوسياسية، ليتحدث طبيب عن الوقاية من غبار الصيف، ومهندسة عن بناء منزل بتكلفة معقولة، وصيدلي عن دواء جديد، ومزارع عن صنف قمح مجرّب، وسيدة بيت عن وصفة منزلية لعلاج الإنفلونزا نجحت بها بعد فشل طويل. نريد صوت الأم، والعامل، والممرضة، والشاب الذي يجرّب مشروعه الثالث بعد أن فشل في اثنين.

نريد من شاب في "البويضة" أن يحكي لنا كيف يصمد دون عمل منذ تخرّجه، ومن مهندس زراعي أن يقدم حلاً لمزارع في "حوشا" أو "بير خداد" تتآكل شجراته من حشرة المن. نريد من مرشدة اجتماعية أن تشرح لفتاة كيف تزن قلبها وعقلها، ولطفل شهد موت الطفولة على أيدي الوحوش كيف يعيش بلا عقد، ومن أستاذ جامعي أن يرشد طالباً في الرصيفة إلى بعثة في برلين، ومن خبير تقني أن يشرح لنا البتكوين دون كثير من الفذلكة، ومن متخصص في الذكاء الاصطناعي أن يطمئن "أبو أسعد" أن الروبوت لن يخطف منه شاحنته على طريق عمان – بغداد.

نحتاج لشاب أخفق في امتحان الثانوية يروي لنا ألم المحاولة، وناجح يبث الأمل في المحاولة التالية. لتاجر خسر في السوق أن يدلنا كيف ننجو من عثراته وخيباته، ولمثقف أن يحدثنا عن الحرية دون أن يخاصم الدين أو العائلة أو الأذان.

نريد طبيباً نفسياً يشرح للمجتمع، بلغة العلم لا المواعظ، ما الذي يدور في ذهن المتحرش، وكيف يُعالج من المرض.

وإن كان لنا حاجة في السياسي، فنريده واقعياً يقول للجالسين أمام الشاشات إن لا أحد يمكنه إنصاف المظلومين في الكون دفعة واحدة، وإن بوصلة غير بوصلة البلاد ستنتهي إلى مهلكة.

السياسة لا تسد الأفق فقط، بل تحجب وجوه الناس الحقيقيين. تحجب الحكايات، والضحكات، والألم، والشغف. ونحن نريد أن نراهم من جديد. نريد أن نعيش، لا أن نتحلل في الأخبار. نريد الحياة.