وجهات نظر

الحوار الديني في عهد البابا الجديد

الحوار الديني في عهد البابا الجديد


من أول إطلالة له على الشرفة البابوية، وضّح البابا لاون الرابع عشر (انتخب في 8 أيار الماضي) أنّ حبريّته ستكون امتدادًا لأسلافه، الأقارب زمنيًا والأباعد. وتحدّث عن «بناء الجسور» بين الكنيسة الكاثوليكية وكلّ أطياف العالم. وفهم الجميع بأنّ خطّ الكنيسة الانفتاحي لن يغلق، بل ستنفتح معه آفاق جديدة.

وقد توضح ذلك في لقاء البابا مع الإعلاميين في أوّل لقاء عام له، وكان عددهم نحو 6 آلاف إعلامي وإعلامية تابعوا وغطّوا على أرض الواقع أحداث وفاة البابا فرنسيس، وانتخاب البابا لاون. تلاه لقاء مع الدبلوماسيين المعتمدين لدى الكرسي الرسولي حيث هنالك 190 دولة لها علاقات دبلوماسيّة، بالإضافة إلى المنظمات الدوليّة. وفيما تابع البابا لاون (69 عامًا) البرنامج المعدّ مسبقًا لاحتفالات يوبيل العام 2025 على ميلاد السيد المسيح، وهي احتفالات شبه يوميّة تستقطب ما لا يقل عن 40 مليون حاج إلى روما هذا العام، جاء حفل التنصيب بقداس بدء الخدمة البطرسية شاملاً وجامعًا لعدد كبير من رؤساء الدول وممثليها، وممثلي الكنائس الشقيقة، وكذلك ممثلي الأديان التوحيديّة.

وفي اليوم التالي، كان اللقاء الهام الذي أود التعليق عليه، وهو مع الوفود التي حضرت حفل التنصيب من جهتي الحوار: الأول مع الممثلين عن الكنائس الشقيقة، وبخاصة أنّ هذا العام هو الذكرى السنوية 1700 لعقد مجمع نيقية (في تركيا الحالية) عام 325 والذي وحّد الإيمان المسيحي في صيغة واحدة لا تزال تتلى في كل كنائس العالم، وأكرر «كلّها» بدون استثناء إلى اليوم. فالصيغة الإيمانيّة واحدة لم تنقسم، لكنّ الإدارات، ولنقل الإرادات، والطقوس والقلوب أحيانًا هي التي توزّعت وشكّلت عدّة كنائس، مع أن السيد المسيح أسّس كنيسة واحدة، نقول عنها رسوليّة جامعة مقدّسة.

أمّا الشق الثاني من الحضور فكان رؤساء الأديان المتعدّدة. وفيه جدّد البابا لاون عهد الكنيسة باستمرار مساعي الحوار والتعاون والتلاقي والأخوّة مع جميع المؤمنين من الأديان المتعدّدة. إلا أنّه أفرز جزءًا خاصًا وعادلاً في حديثه عن الإسلام والمسلمين، فاستذكر أمرين: الأول هو ما جاء في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عام 1965 حين أعلنت الكنيسة موقفها الواضح والصريح من الحوار الديني، في وثيقة هامة ما زالت مرجعًا أساسيًّا للحوار هي NOSTRA AETATE أو «في عصرنا»، وفيه أكد البابا الجديد، على الخط الأساسي للحوار بين الكنيسة والإسلام، فقال: «أمّا العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والمسلمين، فقد تميّزت بالتزام متزايد من أجل الحوار والأخوّة، مدفوعًا بالتّقدير للإخوة والأخوات «الذين يعبدون الإله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحيم القدير، خالق السّماء والأرض، الذي تكلّم إلى البشر» (الوثيقة نفسها، رقم 3). هذا النّهج، المبني على الاحترام المتبادل وحريّة الضّمير، يُشكِّل أساسًا متينًا لبناء الجسور بين جماعاتنا».

أمّا الأمر الثاني الذي استذكره فهو وثيقة الأخوّة الإنسانيّة التي وقعها البابا فرنسيس الراحل مع شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب في أبو ظبي في الرابع من شباط عام 2019، وأصبح ذلك اليوم في الأمم المتحدة يومًا للأخوّة الإنسانيّة العالميّة، في وسط الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان الذي وافقت عليه الأمم المتحدة بمبادرة أردنيّة.

إنّ الحوار ليس مزاجًا لشخص، بل هو موقف وخط واستراتيجية ثابتة في الكنيسة، في علاقتها مع المؤمنين من مختلف الأديان والتقاليد الدينيّة. وهو في الكنيسة خيار لا رجعة عنه، عزّزه البابا السابق ومن سبقه أيضًا من بابوات القرن العشرين، وزار كل منهم المساجد في العالم، مثلما فعل البابا الأسبق بندكتس الذي زار مسجد الحسين بن طلال في عاصمتنا الحبيبة عمان عام 2009، وألقى في رحابه خطابًا تاريخيًّا.

إنّنا نرى مع مجيء البابا لاون، صاحب الخبرات الواسعة، والمؤسّس لاهوتيًّا على علم القديس الجزائري الأصل أغسطينوس، بالإضافة إلى دراسته للحق القانوني في الكنيسة، نرى أنّ هنالك آفاقًا جديدة، من الحوار الفكري ومن التعاون على أرض الواقع، من أجل إيجاد حلول لمعضلات البشريّة، وأهمّها على الإطلاق قضايا العدالة والسلام.

فليشبك المؤمنون، وبالأخص المسلمون والمسيحيون أيديهم معًا، من جديد، لبناء حضارة المحبّة، حتى وإن بدت لنا مع وجود الصراعات بعيدة ومستحيلة.