كثيرًا ما يُنظر إلى الفيضانات على أنها مشكلة تخص الدول النامية، وكأن الدول المتقدمة محصّنة ضد غضب الطبيعة. إلا أنّ ما شهدته مدن كبرى، مثل برلين ولندن ونيويورك وباريس وسيول ودبي في السنوات الأخيرة يثبت العكس تمامًا. فحتى أكثر المدن تجهيزًا بالبنية التحتية الحديثة قد تتعرض لفيضانات مدمرة، لأن المشكلة لم تعد مرتبطة بالقدرة الاقتصادية فقط، بل بطبيعة تصميم شبكات تصريف المياه، وبسلوك السكان، وبحجم التغيّرات المناخية المتسارعة. فلماذا تغرق المدن المتقدمة رغم إمكانياتها الضخمة؟
الفيضانات ليست حكراً على الدول النامية، فالدول المتقدمة شهدت أحداثًا كبيرة بسبب الأمطار الغزيرة في السنوات الأخيرة. فرغم كون اليابان دولة متقدمة جدًا في أنظمة التصريف، فإن أمطار الصيف الموسمية الغزيرة (مثل أمطار 2020) أدت إلى فيضانات وانهيارات أرضية في مناطق عدة، خاصة مدينة كوماموتو. كما غرقت باريس عام 2024 بفعل أمطار غزيرة وارتفاع منسوب نهر السين، مما اضطرهم إلى إخلاء مخيم مشردين على ضفافه وإغلاق أرصفة وممرّات قرب الجسور.
وشهدت ألمانيا وبلجيكا عام 2021 فيضانات كارثية بعد أمطار غزيرة غير مسبوقة أدت إلى وفاة أكثر من 180 شخصًا وتدمير آلاف المنازل وتضرر البنية التحتية، وتعرضت عدة مناطق في بلجيكا، مثل فالوني، لأمطار غزيرة أدت إلى انهيار الطرق والجسور. وفي المملكة المتحدة غرقت لندن عام 2024، وفي أبريل من العام نفسه غرقت دبي بعد هطول أمطار غزيرة في يوم واحد تعادل كمية أمطار موسمين مطريين متتاليين.
فهذه الأمثلة تُظهر أن الأمطار الغزيرة قادرة على تجاوز أنظمة الحماية الحديثة، حتى في الدول الغنية والمتقدمة، لماذا؟
يعتمد تصميم شبكات تصريف مياه الأمطار في العالم على مبدأ هندسي واضح، حيث
لا تُصمَّم الشبكات على أساس استيعاب أسوأ حالة مطرية ممكنة، لأن ذلك سوف يجعل الكلفة الإنشائية تتضاعف بشكل غير مقبول اقتصاديًا. وبدلاً من ذلك، يعتمد المهندسون على ما يُسمّى فترة احتمال تكرار شدة العواصف المطرية التصميمية، أي أن يكون الخط قادرًا على استيعاب عاصفة يتوقع حدوثها بشدة مرتفعة احتمالية حدوثها مرة كل 10 أو 20 سنة، وليس عاصفة استثنائية ربما تحدث بشدة أعظم بكثير مرة خلال 50 سنة.
فمثلا، تشير الاحصاءات الوطنية إلى تساقط كميات أمطار غزيرة لم تحدث منذ زمن بعيد ولمدة 6 ساعات على منطقة وادي السير بلغت 76.7 ملم عام 1971 ، ولكن في عام 1980 تساقطت كمية 132.4 ملم لمدة 24 ساعة، فإذا صممنا أنابيب التصريف لتستوعب الرقم الأعلى فإن تكلفة المشروع سوف تتضاعف. فالخيار الأول – وإن كان منطقيًا اقتصاديًا – يترك المدن عرضة للغرق عندما تحدث أمطار استثنائية تفوق قدرة الشبكات على الاحتمال، وهو ما بات يتكرر بسبب التغيّر المناخي الذي يرفع شدة الهطولات بشكل غير مسبوق.
والحال مماثل عند تصميم المشاريع الانشائية لمقاومة قوى الزلازل، فبإمكاني تصميم أي مبنى لمقاومة زلزال بشدة 9 ريختر أو أكثر (كشدة زلزال فوكوشيما التي ما زالت أضراره ماثلة أمامنا منذ عام 2011 حتى يومنا هذا) ولن يحدث للمبنى أي أضرار تذكر، ولكن السؤال الأهم هو كم سيكلف ذلك التحصين من الزلازل من رأس المال، وماذا سوف يحدث للعوائد على الاستثمار؟
لذلك، علينا الاعتراف أن سلوك الناس هو جزء مهم من المشكلة. فليست الهندسة وحدها التي تحدد مصير الشوارع عند سقوط المطر، فسلوكيات المجتمع جزء من المعادلة. إذ تسبب النفايات التي يلقيها الناس في الشوارع، بلامبالاة وعدم مسؤولية، انسداد مناهل تصريف مياه الأمطار، فالمياه مهما كان تصريفها محسوبًا بدقة، سوف تفشل إذا سُدّت الشبكة بالأكياس البلاستيكية، والقوارير، وكاسات القهوة، وأعقاب السجائر، وفضلات المحال التجارية.
وفي الأردن، كما هي الحال في الدول العربية الأخرى، تتضاعف المشكلة بسبب رمي النفايات العشوائي بشكل أوسع، وتراكم الرمال والأتربة في فصل الصيف، مما يجعل أي عاصفة مطرية – حتى لو لم تكن استثنائية – تتحول إلى تهديد حقيقي للبنية التحتية والسكان. لذلك ينبغي على الأمانة أو البلدية تحمل مسؤولية مخالفة الذين يلقون هذه النفايات في الشوارع.
وهناك مشكلة أخرى هي مزاريب تصريف مياه الأمطار في البيوت وخطرها الخفي. فهناك خطأ شائع آخر يفاقم المشكلة يتمثل في أنه أحيانا، وربما تكون حالات جدا محدودة، توصل فيها مزاريب مياه الأسطح على خطوط الصرف الصحي عندما يكون المزراب أدنى منسوبا من الشارع، كحال التسويات ومواقف السيارات. ولكن لا يجوز تعميم هذه الظاهرة وكأنها السبب الأعظم؛ إذ يمكن حل هذه المشكلة بتركيب منهل منخفض لتجميع للمياه ومن ثم تقوم مضخة غاطسة بضخ المياه إلى الشوارع آليا.
هذه الممارسة موجودة في كثير من الدول، وليس في الأردن فقط، وتؤدي إلى ارتفاع مفاجئ في كميات المياه داخل خطوط الصرف الصحي، وبالتالي تفجّر المناهل نتيجة ضغط المياه الإضافي. فضلا عن ذلك لدينا مشكلة وصول تدفّق كبير للسوائل والمواد الصلبة يفوق قدرة محطات التنقية على المعالجة. فحين تصل المحطة إلى طاقتها القصوى، تضطر إلى تصريف الفائض غير المعالج إلى الأودية، مما يعني تلويث التربة والمياه الجوفية والبيئة بشكل خطير.
فالدرس الأهم هو أن الفيضانات ليست مؤشرَ تخلف… بل سببها مجموعة من العوامل، مثل ضعف الاستعداد والمقدرة على التعامل مع الأزمة، وفقر في ثقافة المواطن وعدم شعوره بالمسؤولية. فالفيضانات اليوم لا تميز بين دولة غنية وأخرى فقيرة. فكل المدن معرضة، لأن العاصفة الاستثنائية لا تعترف بالحدود والجنسية ولا بالميزانيات.
إن الفارق الحقيقي يتمثل في مدى استعداد المجتمع والبلديات والامانة للتعامل مع شدتها ومع سلوك الناس، وتحديث التصاميم الهندسية لتأخذ بعين الاعتبار واقع التغيّرات المناخية. وهذا يستدعي تحديث الكودات الهندسية لتشمل شدة أعظم لفترات تكرار أطول في ظل تغير المناخ، إلى جانب حملات توعية صارمة حول خطورة رمي النفايات والتعامل الخاطئ مع شبكات الصرف الصحي، وتشديد العقوبات على من يربط مزاريب المياه بشبكات الصرف الصحي.
وبناء عليه، فإن على الجهات الرسمية مسؤولية كبرى لتخصيص استثمار أكبر في البنية التحتية الخضراء، مثل أحواض التخزين، والحدائق المطرية، وإعادة تأهيل الأودية والعبّارات وجوانب الطرقات، والتركيز على زراعة الاشجار بكثافة لمنع انجراف التربة. ونقترح تطبيق تعليمات صدرت فيما مضى تلزم أصحاب الأراضي الخلاء بتسوير أراضيهم وإلا تقوم الأمانة بتسويرها على حسابهم الخاص، وذلك منعا لانجراف التربة والحجارة وإغلاق الشوارع.
كثيرًا ما يُنظر إلى الفيضانات على أنها مشكلة تخص الدول النامية، وكأن الدول المتقدمة محصّنة ضد غضب الطبيعة. إلا أنّ ما شهدته مدن كبرى، مثل برلين ولندن ونيويورك وباريس وسيول ودبي في السنوات الأخيرة يثبت العكس تمامًا. فحتى أكثر المدن تجهيزًا بالبنية التحتية الحديثة قد تتعرض لفيضانات مدمرة، لأن المشكلة لم تعد مرتبطة بالقدرة الاقتصادية فقط، بل بطبيعة تصميم شبكات تصريف المياه، وبسلوك السكان، وبحجم التغيّرات المناخية المتسارعة. فلماذا تغرق المدن المتقدمة رغم إمكانياتها الضخمة؟
الفيضانات ليست حكراً على الدول النامية، فالدول المتقدمة شهدت أحداثًا كبيرة بسبب الأمطار الغزيرة في السنوات الأخيرة. فرغم كون اليابان دولة متقدمة جدًا في أنظمة التصريف، فإن أمطار الصيف الموسمية الغزيرة (مثل أمطار 2020) أدت إلى فيضانات وانهيارات أرضية في مناطق عدة، خاصة مدينة كوماموتو. كما غرقت باريس عام 2024 بفعل أمطار غزيرة وارتفاع منسوب نهر السين، مما اضطرهم إلى إخلاء مخيم مشردين على ضفافه وإغلاق أرصفة وممرّات قرب الجسور.
وشهدت ألمانيا وبلجيكا عام 2021 فيضانات كارثية بعد أمطار غزيرة غير مسبوقة أدت إلى وفاة أكثر من 180 شخصًا وتدمير آلاف المنازل وتضرر البنية التحتية، وتعرضت عدة مناطق في بلجيكا، مثل فالوني، لأمطار غزيرة أدت إلى انهيار الطرق والجسور. وفي المملكة المتحدة غرقت لندن عام 2024، وفي أبريل من العام نفسه غرقت دبي بعد هطول أمطار غزيرة في يوم واحد تعادل كمية أمطار موسمين مطريين متتاليين.
فهذه الأمثلة تُظهر أن الأمطار الغزيرة قادرة على تجاوز أنظمة الحماية الحديثة، حتى في الدول الغنية والمتقدمة، لماذا؟
يعتمد تصميم شبكات تصريف مياه الأمطار في العالم على مبدأ هندسي واضح، حيث
لا تُصمَّم الشبكات على أساس استيعاب أسوأ حالة مطرية ممكنة، لأن ذلك سوف يجعل الكلفة الإنشائية تتضاعف بشكل غير مقبول اقتصاديًا. وبدلاً من ذلك، يعتمد المهندسون على ما يُسمّى فترة احتمال تكرار شدة العواصف المطرية التصميمية، أي أن يكون الخط قادرًا على استيعاب عاصفة يتوقع حدوثها بشدة مرتفعة احتمالية حدوثها مرة كل 10 أو 20 سنة، وليس عاصفة استثنائية ربما تحدث بشدة أعظم بكثير مرة خلال 50 سنة.
فمثلا، تشير الاحصاءات الوطنية إلى تساقط كميات أمطار غزيرة لم تحدث منذ زمن بعيد ولمدة 6 ساعات على منطقة وادي السير بلغت 76.7 ملم عام 1971 ، ولكن في عام 1980 تساقطت كمية 132.4 ملم لمدة 24 ساعة، فإذا صممنا أنابيب التصريف لتستوعب الرقم الأعلى فإن تكلفة المشروع سوف تتضاعف. فالخيار الأول – وإن كان منطقيًا اقتصاديًا – يترك المدن عرضة للغرق عندما تحدث أمطار استثنائية تفوق قدرة الشبكات على الاحتمال، وهو ما بات يتكرر بسبب التغيّر المناخي الذي يرفع شدة الهطولات بشكل غير مسبوق.
والحال مماثل عند تصميم المشاريع الانشائية لمقاومة قوى الزلازل، فبإمكاني تصميم أي مبنى لمقاومة زلزال بشدة 9 ريختر أو أكثر (كشدة زلزال فوكوشيما التي ما زالت أضراره ماثلة أمامنا منذ عام 2011 حتى يومنا هذا) ولن يحدث للمبنى أي أضرار تذكر، ولكن السؤال الأهم هو كم سيكلف ذلك التحصين من الزلازل من رأس المال، وماذا سوف يحدث للعوائد على الاستثمار؟
لذلك، علينا الاعتراف أن سلوك الناس هو جزء مهم من المشكلة. فليست الهندسة وحدها التي تحدد مصير الشوارع عند سقوط المطر، فسلوكيات المجتمع جزء من المعادلة. إذ تسبب النفايات التي يلقيها الناس في الشوارع، بلامبالاة وعدم مسؤولية، انسداد مناهل تصريف مياه الأمطار، فالمياه مهما كان تصريفها محسوبًا بدقة، سوف تفشل إذا سُدّت الشبكة بالأكياس البلاستيكية، والقوارير، وكاسات القهوة، وأعقاب السجائر، وفضلات المحال التجارية.
وفي الأردن، كما هي الحال في الدول العربية الأخرى، تتضاعف المشكلة بسبب رمي النفايات العشوائي بشكل أوسع، وتراكم الرمال والأتربة في فصل الصيف، مما يجعل أي عاصفة مطرية – حتى لو لم تكن استثنائية – تتحول إلى تهديد حقيقي للبنية التحتية والسكان. لذلك ينبغي على الأمانة أو البلدية تحمل مسؤولية مخالفة الذين يلقون هذه النفايات في الشوارع.
وهناك مشكلة أخرى هي مزاريب تصريف مياه الأمطار في البيوت وخطرها الخفي. فهناك خطأ شائع آخر يفاقم المشكلة يتمثل في أنه أحيانا، وربما تكون حالات جدا محدودة، توصل فيها مزاريب مياه الأسطح على خطوط الصرف الصحي عندما يكون المزراب أدنى منسوبا من الشارع، كحال التسويات ومواقف السيارات. ولكن لا يجوز تعميم هذه الظاهرة وكأنها السبب الأعظم؛ إذ يمكن حل هذه المشكلة بتركيب منهل منخفض لتجميع للمياه ومن ثم تقوم مضخة غاطسة بضخ المياه إلى الشوارع آليا.
هذه الممارسة موجودة في كثير من الدول، وليس في الأردن فقط، وتؤدي إلى ارتفاع مفاجئ في كميات المياه داخل خطوط الصرف الصحي، وبالتالي تفجّر المناهل نتيجة ضغط المياه الإضافي. فضلا عن ذلك لدينا مشكلة وصول تدفّق كبير للسوائل والمواد الصلبة يفوق قدرة محطات التنقية على المعالجة. فحين تصل المحطة إلى طاقتها القصوى، تضطر إلى تصريف الفائض غير المعالج إلى الأودية، مما يعني تلويث التربة والمياه الجوفية والبيئة بشكل خطير.
فالدرس الأهم هو أن الفيضانات ليست مؤشرَ تخلف… بل سببها مجموعة من العوامل، مثل ضعف الاستعداد والمقدرة على التعامل مع الأزمة، وفقر في ثقافة المواطن وعدم شعوره بالمسؤولية. فالفيضانات اليوم لا تميز بين دولة غنية وأخرى فقيرة. فكل المدن معرضة، لأن العاصفة الاستثنائية لا تعترف بالحدود والجنسية ولا بالميزانيات.
إن الفارق الحقيقي يتمثل في مدى استعداد المجتمع والبلديات والامانة للتعامل مع شدتها ومع سلوك الناس، وتحديث التصاميم الهندسية لتأخذ بعين الاعتبار واقع التغيّرات المناخية. وهذا يستدعي تحديث الكودات الهندسية لتشمل شدة أعظم لفترات تكرار أطول في ظل تغير المناخ، إلى جانب حملات توعية صارمة حول خطورة رمي النفايات والتعامل الخاطئ مع شبكات الصرف الصحي، وتشديد العقوبات على من يربط مزاريب المياه بشبكات الصرف الصحي.
وبناء عليه، فإن على الجهات الرسمية مسؤولية كبرى لتخصيص استثمار أكبر في البنية التحتية الخضراء، مثل أحواض التخزين، والحدائق المطرية، وإعادة تأهيل الأودية والعبّارات وجوانب الطرقات، والتركيز على زراعة الاشجار بكثافة لمنع انجراف التربة. ونقترح تطبيق تعليمات صدرت فيما مضى تلزم أصحاب الأراضي الخلاء بتسوير أراضيهم وإلا تقوم الأمانة بتسويرها على حسابهم الخاص، وذلك منعا لانجراف التربة والحجارة وإغلاق الشوارع.
كثيرًا ما يُنظر إلى الفيضانات على أنها مشكلة تخص الدول النامية، وكأن الدول المتقدمة محصّنة ضد غضب الطبيعة. إلا أنّ ما شهدته مدن كبرى، مثل برلين ولندن ونيويورك وباريس وسيول ودبي في السنوات الأخيرة يثبت العكس تمامًا. فحتى أكثر المدن تجهيزًا بالبنية التحتية الحديثة قد تتعرض لفيضانات مدمرة، لأن المشكلة لم تعد مرتبطة بالقدرة الاقتصادية فقط، بل بطبيعة تصميم شبكات تصريف المياه، وبسلوك السكان، وبحجم التغيّرات المناخية المتسارعة. فلماذا تغرق المدن المتقدمة رغم إمكانياتها الضخمة؟
الفيضانات ليست حكراً على الدول النامية، فالدول المتقدمة شهدت أحداثًا كبيرة بسبب الأمطار الغزيرة في السنوات الأخيرة. فرغم كون اليابان دولة متقدمة جدًا في أنظمة التصريف، فإن أمطار الصيف الموسمية الغزيرة (مثل أمطار 2020) أدت إلى فيضانات وانهيارات أرضية في مناطق عدة، خاصة مدينة كوماموتو. كما غرقت باريس عام 2024 بفعل أمطار غزيرة وارتفاع منسوب نهر السين، مما اضطرهم إلى إخلاء مخيم مشردين على ضفافه وإغلاق أرصفة وممرّات قرب الجسور.
وشهدت ألمانيا وبلجيكا عام 2021 فيضانات كارثية بعد أمطار غزيرة غير مسبوقة أدت إلى وفاة أكثر من 180 شخصًا وتدمير آلاف المنازل وتضرر البنية التحتية، وتعرضت عدة مناطق في بلجيكا، مثل فالوني، لأمطار غزيرة أدت إلى انهيار الطرق والجسور. وفي المملكة المتحدة غرقت لندن عام 2024، وفي أبريل من العام نفسه غرقت دبي بعد هطول أمطار غزيرة في يوم واحد تعادل كمية أمطار موسمين مطريين متتاليين.
فهذه الأمثلة تُظهر أن الأمطار الغزيرة قادرة على تجاوز أنظمة الحماية الحديثة، حتى في الدول الغنية والمتقدمة، لماذا؟
يعتمد تصميم شبكات تصريف مياه الأمطار في العالم على مبدأ هندسي واضح، حيث
لا تُصمَّم الشبكات على أساس استيعاب أسوأ حالة مطرية ممكنة، لأن ذلك سوف يجعل الكلفة الإنشائية تتضاعف بشكل غير مقبول اقتصاديًا. وبدلاً من ذلك، يعتمد المهندسون على ما يُسمّى فترة احتمال تكرار شدة العواصف المطرية التصميمية، أي أن يكون الخط قادرًا على استيعاب عاصفة يتوقع حدوثها بشدة مرتفعة احتمالية حدوثها مرة كل 10 أو 20 سنة، وليس عاصفة استثنائية ربما تحدث بشدة أعظم بكثير مرة خلال 50 سنة.
فمثلا، تشير الاحصاءات الوطنية إلى تساقط كميات أمطار غزيرة لم تحدث منذ زمن بعيد ولمدة 6 ساعات على منطقة وادي السير بلغت 76.7 ملم عام 1971 ، ولكن في عام 1980 تساقطت كمية 132.4 ملم لمدة 24 ساعة، فإذا صممنا أنابيب التصريف لتستوعب الرقم الأعلى فإن تكلفة المشروع سوف تتضاعف. فالخيار الأول – وإن كان منطقيًا اقتصاديًا – يترك المدن عرضة للغرق عندما تحدث أمطار استثنائية تفوق قدرة الشبكات على الاحتمال، وهو ما بات يتكرر بسبب التغيّر المناخي الذي يرفع شدة الهطولات بشكل غير مسبوق.
والحال مماثل عند تصميم المشاريع الانشائية لمقاومة قوى الزلازل، فبإمكاني تصميم أي مبنى لمقاومة زلزال بشدة 9 ريختر أو أكثر (كشدة زلزال فوكوشيما التي ما زالت أضراره ماثلة أمامنا منذ عام 2011 حتى يومنا هذا) ولن يحدث للمبنى أي أضرار تذكر، ولكن السؤال الأهم هو كم سيكلف ذلك التحصين من الزلازل من رأس المال، وماذا سوف يحدث للعوائد على الاستثمار؟
لذلك، علينا الاعتراف أن سلوك الناس هو جزء مهم من المشكلة. فليست الهندسة وحدها التي تحدد مصير الشوارع عند سقوط المطر، فسلوكيات المجتمع جزء من المعادلة. إذ تسبب النفايات التي يلقيها الناس في الشوارع، بلامبالاة وعدم مسؤولية، انسداد مناهل تصريف مياه الأمطار، فالمياه مهما كان تصريفها محسوبًا بدقة، سوف تفشل إذا سُدّت الشبكة بالأكياس البلاستيكية، والقوارير، وكاسات القهوة، وأعقاب السجائر، وفضلات المحال التجارية.
وفي الأردن، كما هي الحال في الدول العربية الأخرى، تتضاعف المشكلة بسبب رمي النفايات العشوائي بشكل أوسع، وتراكم الرمال والأتربة في فصل الصيف، مما يجعل أي عاصفة مطرية – حتى لو لم تكن استثنائية – تتحول إلى تهديد حقيقي للبنية التحتية والسكان. لذلك ينبغي على الأمانة أو البلدية تحمل مسؤولية مخالفة الذين يلقون هذه النفايات في الشوارع.
وهناك مشكلة أخرى هي مزاريب تصريف مياه الأمطار في البيوت وخطرها الخفي. فهناك خطأ شائع آخر يفاقم المشكلة يتمثل في أنه أحيانا، وربما تكون حالات جدا محدودة، توصل فيها مزاريب مياه الأسطح على خطوط الصرف الصحي عندما يكون المزراب أدنى منسوبا من الشارع، كحال التسويات ومواقف السيارات. ولكن لا يجوز تعميم هذه الظاهرة وكأنها السبب الأعظم؛ إذ يمكن حل هذه المشكلة بتركيب منهل منخفض لتجميع للمياه ومن ثم تقوم مضخة غاطسة بضخ المياه إلى الشوارع آليا.
هذه الممارسة موجودة في كثير من الدول، وليس في الأردن فقط، وتؤدي إلى ارتفاع مفاجئ في كميات المياه داخل خطوط الصرف الصحي، وبالتالي تفجّر المناهل نتيجة ضغط المياه الإضافي. فضلا عن ذلك لدينا مشكلة وصول تدفّق كبير للسوائل والمواد الصلبة يفوق قدرة محطات التنقية على المعالجة. فحين تصل المحطة إلى طاقتها القصوى، تضطر إلى تصريف الفائض غير المعالج إلى الأودية، مما يعني تلويث التربة والمياه الجوفية والبيئة بشكل خطير.
فالدرس الأهم هو أن الفيضانات ليست مؤشرَ تخلف… بل سببها مجموعة من العوامل، مثل ضعف الاستعداد والمقدرة على التعامل مع الأزمة، وفقر في ثقافة المواطن وعدم شعوره بالمسؤولية. فالفيضانات اليوم لا تميز بين دولة غنية وأخرى فقيرة. فكل المدن معرضة، لأن العاصفة الاستثنائية لا تعترف بالحدود والجنسية ولا بالميزانيات.
إن الفارق الحقيقي يتمثل في مدى استعداد المجتمع والبلديات والامانة للتعامل مع شدتها ومع سلوك الناس، وتحديث التصاميم الهندسية لتأخذ بعين الاعتبار واقع التغيّرات المناخية. وهذا يستدعي تحديث الكودات الهندسية لتشمل شدة أعظم لفترات تكرار أطول في ظل تغير المناخ، إلى جانب حملات توعية صارمة حول خطورة رمي النفايات والتعامل الخاطئ مع شبكات الصرف الصحي، وتشديد العقوبات على من يربط مزاريب المياه بشبكات الصرف الصحي.
وبناء عليه، فإن على الجهات الرسمية مسؤولية كبرى لتخصيص استثمار أكبر في البنية التحتية الخضراء، مثل أحواض التخزين، والحدائق المطرية، وإعادة تأهيل الأودية والعبّارات وجوانب الطرقات، والتركيز على زراعة الاشجار بكثافة لمنع انجراف التربة. ونقترح تطبيق تعليمات صدرت فيما مضى تلزم أصحاب الأراضي الخلاء بتسوير أراضيهم وإلا تقوم الأمانة بتسويرها على حسابهم الخاص، وذلك منعا لانجراف التربة والحجارة وإغلاق الشوارع.
التعليقات