الحرب الاقتصادية العالمية
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على التصعيد الأخير في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يتضح أن هذه المواجهة لم تعد مجرد خلاف على الرسوم الجمركية، بل أصبحت جزءًا من معركة أوسع على النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي في العالم. فبينما تسعى واشنطن لكبح صعود الصين عبر القيود التجارية والتكنولوجية، تحاول بكين مواجهة الضغوط من خلال سياسات تحفيز، وتنويع الأسواق، وتعزيز الاكتفاء الذاتي في القطاعات الاستراتيجية.
في هذا السياق، أظهرت البيانات الأخيرة أن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 5.2% في الربع الثاني من عام 2025، متجاوزًا التوقعات، لكنه أبطأ من معدل 5.4% المسجل في الربع الأول. ورغم هذا الأداء الذي يُظهر صمودًا نسبيًا، حذّر محللون من ضعف داخلي متزايد، خاصة مع تراجع الصادرات وتدهور ثقة المستهلكين. في المقابل، سجّل الاقتصاد الأميركي نموًا بنسبة 3.0% في الربع الثاني من العام نفسه، مدعومًا بإنفاق استهلاكي قوي واستقرار سوق العمل.
منذ عام 2018، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية على سلع صينية بمئات المليارات من الدولارات، وردّت بكين بالمثل، خصوصًا على المنتجات الزراعية الأميركية. أدت هذه الإجراءات إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، حيث بدأت شركات أميركية وأجنبية بنقل جزء من إنتاجها إلى دول مثل فيتنام والهند. وفي المقابل، كثّفت الصين من دعمها للتصنيع المحلي في مجالات حساسة كأشباه الموصلات والطاقة المتجددة، في إطار استراتيجية «صنع في الصين 2025».
تأثير الحرب لم يقتصر على التجارة فقط، بل امتد إلى قطاعات حيوية. في الولايات المتحدة، ارتفعت تكاليف الإنتاج في الصناعات المعتمدة على مكونات صينية مثل التكنولوجيا والسيارات، بينما تأثر المزارعون سلبًا من الرد الصيني، ما دفع الحكومة الأميركية إلى تقديم تعويضات بمليارات الدولارات. أما الصين، فقد عانت من ضعف الطلب الخارجي، لكنها حاولت التكيف عبر زيادة الإنفاق على البنية التحتية وخفض أسعار الفائدة وتقديم حوافز ضريبية للابتكار المحلي.
المعركة التجارية بين القوتين تحمل انعكاسات أوسع على بنية الاقتصاد العالمي. فالتنافس الجاري يدفع نحو ما يُعرف بـ"فك الارتباط الاقتصادي»، وهو اتجاه تسعى فيه كل دولة إلى تقليل اعتمادها على الأخرى. وقد أدى ذلك إلى تراجع حصة الصين من واردات الولايات المتحدة من نحو21% في 2017 إلى أقل من 14% في منتصف 2025، في مؤشر على فعالية الضغوط الأميركية.
من حيث التوقعات المستقبلية، تتراوح السيناريوهات بين ثلاثة مسارات محتملة. الأول، هو استمرار التصعيد، مما يعني زيادة الكلفة على الطرفين وعلى الاقتصاد العالمي. الثاني، التوصل إلى تفاهمات مؤقتة تُخفف حدة التوتر دون إنهاء الصراع. والثالث، فك ارتباط تدريجي يعيد رسم خريطة سلاسل التوريد العالمية ويمنح فرصًا لدول نامية لتوسيع حصتها التجارية.
لا يمكن الحديث حتى الآن عن منتصر واضح في هذه الحرب. الولايات المتحدة تمتلك أدوات نقدية ومؤسسية قوية تسمح لها بامتصاص الضغوط، بينما تظهر الصين قدرة مرنة على التكيف وإعادة التموقع. غير أن كلفة الصراع باهظة على الجانبين، وتداعياته تمتد إلى الاقتصاد العالمي بأسره. لقد تحوّل النزاع التجاري إلى صراع استراتيجي أعمق، يُحدد من يملك مفاتيح الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية في العقود المقبلة.
رئيس قسم الاقتصاد – الجامعة الاردنية
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على التصعيد الأخير في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يتضح أن هذه المواجهة لم تعد مجرد خلاف على الرسوم الجمركية، بل أصبحت جزءًا من معركة أوسع على النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي في العالم. فبينما تسعى واشنطن لكبح صعود الصين عبر القيود التجارية والتكنولوجية، تحاول بكين مواجهة الضغوط من خلال سياسات تحفيز، وتنويع الأسواق، وتعزيز الاكتفاء الذاتي في القطاعات الاستراتيجية.
في هذا السياق، أظهرت البيانات الأخيرة أن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 5.2% في الربع الثاني من عام 2025، متجاوزًا التوقعات، لكنه أبطأ من معدل 5.4% المسجل في الربع الأول. ورغم هذا الأداء الذي يُظهر صمودًا نسبيًا، حذّر محللون من ضعف داخلي متزايد، خاصة مع تراجع الصادرات وتدهور ثقة المستهلكين. في المقابل، سجّل الاقتصاد الأميركي نموًا بنسبة 3.0% في الربع الثاني من العام نفسه، مدعومًا بإنفاق استهلاكي قوي واستقرار سوق العمل.
منذ عام 2018، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية على سلع صينية بمئات المليارات من الدولارات، وردّت بكين بالمثل، خصوصًا على المنتجات الزراعية الأميركية. أدت هذه الإجراءات إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، حيث بدأت شركات أميركية وأجنبية بنقل جزء من إنتاجها إلى دول مثل فيتنام والهند. وفي المقابل، كثّفت الصين من دعمها للتصنيع المحلي في مجالات حساسة كأشباه الموصلات والطاقة المتجددة، في إطار استراتيجية «صنع في الصين 2025».
تأثير الحرب لم يقتصر على التجارة فقط، بل امتد إلى قطاعات حيوية. في الولايات المتحدة، ارتفعت تكاليف الإنتاج في الصناعات المعتمدة على مكونات صينية مثل التكنولوجيا والسيارات، بينما تأثر المزارعون سلبًا من الرد الصيني، ما دفع الحكومة الأميركية إلى تقديم تعويضات بمليارات الدولارات. أما الصين، فقد عانت من ضعف الطلب الخارجي، لكنها حاولت التكيف عبر زيادة الإنفاق على البنية التحتية وخفض أسعار الفائدة وتقديم حوافز ضريبية للابتكار المحلي.
المعركة التجارية بين القوتين تحمل انعكاسات أوسع على بنية الاقتصاد العالمي. فالتنافس الجاري يدفع نحو ما يُعرف بـ"فك الارتباط الاقتصادي»، وهو اتجاه تسعى فيه كل دولة إلى تقليل اعتمادها على الأخرى. وقد أدى ذلك إلى تراجع حصة الصين من واردات الولايات المتحدة من نحو21% في 2017 إلى أقل من 14% في منتصف 2025، في مؤشر على فعالية الضغوط الأميركية.
من حيث التوقعات المستقبلية، تتراوح السيناريوهات بين ثلاثة مسارات محتملة. الأول، هو استمرار التصعيد، مما يعني زيادة الكلفة على الطرفين وعلى الاقتصاد العالمي. الثاني، التوصل إلى تفاهمات مؤقتة تُخفف حدة التوتر دون إنهاء الصراع. والثالث، فك ارتباط تدريجي يعيد رسم خريطة سلاسل التوريد العالمية ويمنح فرصًا لدول نامية لتوسيع حصتها التجارية.
لا يمكن الحديث حتى الآن عن منتصر واضح في هذه الحرب. الولايات المتحدة تمتلك أدوات نقدية ومؤسسية قوية تسمح لها بامتصاص الضغوط، بينما تظهر الصين قدرة مرنة على التكيف وإعادة التموقع. غير أن كلفة الصراع باهظة على الجانبين، وتداعياته تمتد إلى الاقتصاد العالمي بأسره. لقد تحوّل النزاع التجاري إلى صراع استراتيجي أعمق، يُحدد من يملك مفاتيح الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية في العقود المقبلة.
رئيس قسم الاقتصاد – الجامعة الاردنية