الاعتراف بدولة فلسطين من منظور قانوني
في تطور سياسي إيجابي، أعلنت عدة دول كبرى عن نيتها الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين خلال الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول القادم، وذلك ردًا على الموقف الإسرائيلي الرافض لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، والذي تسبّب بكارثة بشرية غير مسبوقة في العصر الحديث، حتى في أكثر الحروب العالمية دموية.
ولا ينبغي قراءة اعتراف هذه الدول، مثل فرنسا وبريطانيا، بدولة فلسطين كمجرّد إعلان سياسي مدفوع بمشاعر التعاطف الإنساني مع أطفال غزة، بل هو تحوّل جذري في الموقف الأوروبي تجاه «الدولة الفلسطينية»، من اعتبارها كيانًا مستقبليًا مشروطًا بنتائج مفاوضات ثنائية غير متكافئة، إلى واقع قانوني يستحق الإقرار به ودعمه.
ويُقصد بـ"الاعتراف بالدول» في القانون الدولي أنه عمل سيادي تُعلن من خلاله دولةٌ ما قبولها بوجود كيان معين كدولة مستقلة ذات أهلية قانونية دولية. فهذا الاعتراف لا يُنشئ الدولة من حيث أركانها وعناصرها القانونية الأساسية، وإنما يُقرّ بوجودها الفعلي على المستوى الدولي لغايات التمتع بالمزايا والحصانات التي تتمتع بها باقي دول العالم بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية.
وتبقى مسألة إنشاء الدولة محكومةً بالقانون الدستوري، الذي يشترط توافر ثلاثة عناصر: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية. وفي الحالة الفلسطينية، يوجد شعبٌ مرابط على ترابه الوطني، وآخر في الشتات ينتظر العودة إلى دولته الأم عند قيامها. كما يوجد إقليم يتمثل في الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
إلا أن هذه الرقعة الجغرافية تتعرض لتهويدٍ ممنهج ونزعٍ للملكية الخاصة، وهو ما يعيق، من منظور الفقه الدستوري، إمكانية قيام الدولة الفلسطينية. فالممارسات الإسرائيلية، القائمة على الاعتداء المستمر على الأراضي الفلسطينية وضمّها لإقامة مستوطنات، ولا سيما في القدس الشرقية، تهدف أساسًا إلى إنكار وجود «إقليم» واضح الحدود والمعالم ومترابط الأجزاء، وهو شرط أساسي في تحقيق «عناصر الدولة» بحسب القانون الدستوري.
أما عنصر السلطة السياسية، فهو قائم -وإن نظريًا – ويتمثل في السلطة الفلسطينية، التي هي بأمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في بنيتها وعلاقتها ببقية الفصائل والحركات الفلسطينية، لتتحقق فيها شروط السلطة السياسية الشرعية، من حيث القبول الشعبي والمشروعية السياسية.
وتقود فرنسا هذا التحوّل الأوروبي، حيث أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين في أيلول القادم، تعبيرًا عن رفضها المطلق لاستمرار الاحتلال وانسداد الأفق السياسي. بدورها، قدّمت بريطانيا اعترافًا مشروطًا بالدولة الفلسطينية، في حال لم تقم إسرائيل بوقف إطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات، ووقف الاستيطان، والانخراط في عملية سلام قائمة على حل الدولتين
وتكمن أهمية الاعتراف البريطاني تحديدًا في أن بريطانيا كانت الدولة المنتدبة على فلسطين بين عامي 1920 و1948، وهي المسؤولة عن إصدار وعد بلفور الذي مهّد لإقامة دولة إسرائيل. وبالتالي، يمكن تفسير الاعتراف البريطاني قانونيًا على أنه إقرارٌ بتقصيرٍ تاريخي، وتصحيحٌ لمسار سياسي وقانوني استمر قرنًا من الزمن.
أما من الناحية القانونية، فإن ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين سيدفع باتجاه تغيير وضعها الحالي، الذي منحته إياها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 كـ"دولة مراقب غير عضو». والأثر القانوني الأهم لهذا الاعتراف، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، أنه سيساهم في ترسيخ وصفٍ دولي جديد لفلسطين بأنها «دولة تحت الاحتلال»، ما يفرض دعمها للحصول على استقلالها، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، وإعادة الزخم إلى مبدأ حل الدولتين الذي تآكل بفعل السياسات الإسرائيلية والجمود الأميركي.
ويتمثل الأثر الدبلوماسي لهذا الاعتراف من دول أوروبية كبرى في إمكانية رفع التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني إلى مستوى السفارات في باريس ولندن، وفتح الباب أمام توسيع العلاقات الثنائية على أساس «دولة مع دولة»، وهو ما ستكون له تبعات سياسية إيجابية، أبرزها تقويض الحجة الإسرائيلية القائمة على أن الظروف غير ناضجة لإنشاء دولة فلسطينية.
إن الاعتراف الدولي المتزايد بدولة فلسطين يفتح المجال أمام ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي أمام الهيئات القضائية الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره قوة احتلال تنتهك أحكام اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949. فوجود دولة معترف بها يضفي مزيدًا من الشرعية على المطالبات الفلسطينية، ويقوّي حجتها القانونية أمام المجتمع الدولي بأن الاحتلال الإسرائيلي ليس فقط غير مشروع سياسيًا، بل يشكل جريمة مستمرة ضد القانون الدولي الإنساني.
كما أن هذا الاعتراف يعزز من أهلية فلسطين في الانضمام إلى مزيد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، ما يمنحها أدوات إضافية لتعزيز مكانتها القانونية والسياسية على الساحة الدولية. فالدولة التي تنال اعترافًا واسعًا تكتسب القدرة على ممارسة سيادتها بشكل أوسع، حتى وإن بقيت خاضعة للاحتلال، باعتبار أن الشرعية الدولية يمكن أن تشكل أداة مقاومة قانونية لا تقل أهمية عن أدوات المقاومة السياسية والشعبية.
إن هذا التسابق الدولي للاعتراف بدولة فلسطين يُعد انتصارًا حقيقيًا لأبطال المقاومة في غزة، من نساء وأطفال أنهكهم الجوع والعطش، وأسهمت مأساتهم في إحداث تحوّلات جيوسياسية في البيئة الدولية. وإن كانت هذه التحولات لن تُسقط الاحتلال أو تُنهي المعاناة على الفور، إلا أنها ستمنح القضية الفلسطينية زخمًا جديدًا، وتُعيد تموضعها في صدارة الاهتمام الدولي.
أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
في تطور سياسي إيجابي، أعلنت عدة دول كبرى عن نيتها الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين خلال الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول القادم، وذلك ردًا على الموقف الإسرائيلي الرافض لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، والذي تسبّب بكارثة بشرية غير مسبوقة في العصر الحديث، حتى في أكثر الحروب العالمية دموية.
ولا ينبغي قراءة اعتراف هذه الدول، مثل فرنسا وبريطانيا، بدولة فلسطين كمجرّد إعلان سياسي مدفوع بمشاعر التعاطف الإنساني مع أطفال غزة، بل هو تحوّل جذري في الموقف الأوروبي تجاه «الدولة الفلسطينية»، من اعتبارها كيانًا مستقبليًا مشروطًا بنتائج مفاوضات ثنائية غير متكافئة، إلى واقع قانوني يستحق الإقرار به ودعمه.
ويُقصد بـ"الاعتراف بالدول» في القانون الدولي أنه عمل سيادي تُعلن من خلاله دولةٌ ما قبولها بوجود كيان معين كدولة مستقلة ذات أهلية قانونية دولية. فهذا الاعتراف لا يُنشئ الدولة من حيث أركانها وعناصرها القانونية الأساسية، وإنما يُقرّ بوجودها الفعلي على المستوى الدولي لغايات التمتع بالمزايا والحصانات التي تتمتع بها باقي دول العالم بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية.
وتبقى مسألة إنشاء الدولة محكومةً بالقانون الدستوري، الذي يشترط توافر ثلاثة عناصر: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية. وفي الحالة الفلسطينية، يوجد شعبٌ مرابط على ترابه الوطني، وآخر في الشتات ينتظر العودة إلى دولته الأم عند قيامها. كما يوجد إقليم يتمثل في الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
إلا أن هذه الرقعة الجغرافية تتعرض لتهويدٍ ممنهج ونزعٍ للملكية الخاصة، وهو ما يعيق، من منظور الفقه الدستوري، إمكانية قيام الدولة الفلسطينية. فالممارسات الإسرائيلية، القائمة على الاعتداء المستمر على الأراضي الفلسطينية وضمّها لإقامة مستوطنات، ولا سيما في القدس الشرقية، تهدف أساسًا إلى إنكار وجود «إقليم» واضح الحدود والمعالم ومترابط الأجزاء، وهو شرط أساسي في تحقيق «عناصر الدولة» بحسب القانون الدستوري.
أما عنصر السلطة السياسية، فهو قائم -وإن نظريًا – ويتمثل في السلطة الفلسطينية، التي هي بأمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في بنيتها وعلاقتها ببقية الفصائل والحركات الفلسطينية، لتتحقق فيها شروط السلطة السياسية الشرعية، من حيث القبول الشعبي والمشروعية السياسية.
وتقود فرنسا هذا التحوّل الأوروبي، حيث أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين في أيلول القادم، تعبيرًا عن رفضها المطلق لاستمرار الاحتلال وانسداد الأفق السياسي. بدورها، قدّمت بريطانيا اعترافًا مشروطًا بالدولة الفلسطينية، في حال لم تقم إسرائيل بوقف إطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات، ووقف الاستيطان، والانخراط في عملية سلام قائمة على حل الدولتين
وتكمن أهمية الاعتراف البريطاني تحديدًا في أن بريطانيا كانت الدولة المنتدبة على فلسطين بين عامي 1920 و1948، وهي المسؤولة عن إصدار وعد بلفور الذي مهّد لإقامة دولة إسرائيل. وبالتالي، يمكن تفسير الاعتراف البريطاني قانونيًا على أنه إقرارٌ بتقصيرٍ تاريخي، وتصحيحٌ لمسار سياسي وقانوني استمر قرنًا من الزمن.
أما من الناحية القانونية، فإن ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين سيدفع باتجاه تغيير وضعها الحالي، الذي منحته إياها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 كـ"دولة مراقب غير عضو». والأثر القانوني الأهم لهذا الاعتراف، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، أنه سيساهم في ترسيخ وصفٍ دولي جديد لفلسطين بأنها «دولة تحت الاحتلال»، ما يفرض دعمها للحصول على استقلالها، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، وإعادة الزخم إلى مبدأ حل الدولتين الذي تآكل بفعل السياسات الإسرائيلية والجمود الأميركي.
ويتمثل الأثر الدبلوماسي لهذا الاعتراف من دول أوروبية كبرى في إمكانية رفع التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني إلى مستوى السفارات في باريس ولندن، وفتح الباب أمام توسيع العلاقات الثنائية على أساس «دولة مع دولة»، وهو ما ستكون له تبعات سياسية إيجابية، أبرزها تقويض الحجة الإسرائيلية القائمة على أن الظروف غير ناضجة لإنشاء دولة فلسطينية.
إن الاعتراف الدولي المتزايد بدولة فلسطين يفتح المجال أمام ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي أمام الهيئات القضائية الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره قوة احتلال تنتهك أحكام اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949. فوجود دولة معترف بها يضفي مزيدًا من الشرعية على المطالبات الفلسطينية، ويقوّي حجتها القانونية أمام المجتمع الدولي بأن الاحتلال الإسرائيلي ليس فقط غير مشروع سياسيًا، بل يشكل جريمة مستمرة ضد القانون الدولي الإنساني.
كما أن هذا الاعتراف يعزز من أهلية فلسطين في الانضمام إلى مزيد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، ما يمنحها أدوات إضافية لتعزيز مكانتها القانونية والسياسية على الساحة الدولية. فالدولة التي تنال اعترافًا واسعًا تكتسب القدرة على ممارسة سيادتها بشكل أوسع، حتى وإن بقيت خاضعة للاحتلال، باعتبار أن الشرعية الدولية يمكن أن تشكل أداة مقاومة قانونية لا تقل أهمية عن أدوات المقاومة السياسية والشعبية.
إن هذا التسابق الدولي للاعتراف بدولة فلسطين يُعد انتصارًا حقيقيًا لأبطال المقاومة في غزة، من نساء وأطفال أنهكهم الجوع والعطش، وأسهمت مأساتهم في إحداث تحوّلات جيوسياسية في البيئة الدولية. وإن كانت هذه التحولات لن تُسقط الاحتلال أو تُنهي المعاناة على الفور، إلا أنها ستمنح القضية الفلسطينية زخمًا جديدًا، وتُعيد تموضعها في صدارة الاهتمام الدولي.
أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة