الفردانية ودروس التاريخ
من نكبة 1948 إلى نكسة 1967 وصولاً إلى غزو العراق للكويت الذي صادف أمس، وقرار حماس في 7 أكتوبر 2023، ظلت القرارات المصيرية رهينة أفراد أو دوائر ضيقة، لا تخضع لنقاش مؤسسي ولا لتقدير حقيقي لتبعات الصراع، لكن الثمن الذي يدفع عام وشامل.
المشروع الصهيوني في فلسطين قبل 1948 كان يتقدم وفق تخطيط طويل المدى. ففي العقود التي سبقت إعلان الدولة، بنى اليهود في فلسطين الكيبوتسات كمجتمعات إنتاجية وزراعية وصناعية حديثة، وكانت هذه الكيبوتسات بمثابة مختبرات لبناء القوة، إذ وفرت تدريباً عملياً على الزراعة الحديثة، والتنظيم المجتمعي، والعمل التعاوني، وساهمت في إعداد كوادر عسكرية وفكرية قادرة على إدارة الدولة الوليدة. بهذه الطريقة، تهيأت الحركة الصهيونية لامتلاك اقتصاد متين، وبنية تحتية، وجهاز تعليمي وإعلامي، ومنظمات عسكرية سرية، حتى أصبح لديهم قبل إعلان الدولة فعلياً مؤسسات جاهزة لدولة كاملة. وعندما جاء 14 مايو 1948، كانت إسرائيل تمتلك جيشاً منظماً، واقتصاداً فاعلاً، وقيادة سياسية متفقة على هدف واحد.
في المقابل، دخل العرب حرب 1948 بلا قيادة موحدة أو خطة مشتركة، وكل دولة عربية اتخذت قرارها، وفق حسابات تخصها، دون أن يكون هناك مشروع عربي متكامل لمواجهة المشروع الصهيوني. هذا النمط تكرر في حرب 1967 حين اتخذ القرار العربي بالمواجهة من دون مؤسسات حقيقية تراجعه أو توازن القرار. وفي غزو الكويت عام 1990، قرر صدام حسين منفرداً إدخال المنطقة في كارثة تاريخية. وأخيراً، في 7 أكتوبر 2023، كررت حماس النمط ذاته، بقرار عسكري وسياسي اتخذته قيادة ضيقة بعيداً عن أي مؤسسات فلسطينية أو تشاور عربي، لتتحمل غزة وأهلها كلفة هائلة من الدمار والحصار والتجويع.
لسنا مضطرين للدفاع عن خيارات فردية أرهقتنا لعقود، ومنعت مجتمعاتنا من النهوض، وتسببت في خسارات اقتصادية وتنموية متراكمة، وأغرقتنا في سلسلة انكسارات نفسية وعسكرية. النقد الموضوعي لهذه الخيارات ليس انحيازاً لإسرائيل ولا تغطية على جرائمها، بل هو ضرورة أخلاقية وسياسية لحماية مستقبل شعوبنا من تكرار الأخطاء نفسها، أو في أقل تقدير محاولة وقف الخسارات عند نقطة محددة، قبل أن نفكر بالنهوض من جديد، ودعكم من محنطة «من لم يكن مع المقاومة فهو مع إسرائيل» فهذا الشعار يراد منه إجهاض كل محاولة للفهم بعيداً عن الشعبويات.
وحتى لا أكون صيداً لسهام المتأهبين في منصات التواصل الاجتماعي للانقضاض على أي رأي آخر، فأؤكد أن موقفي الشخصي واضح، وهو أن إسرائيل كيان مجرم مارس ولا يزال يمارس القتل الممنهج بحق الأطفال والنساء، وتجاوز كل الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية في حربه على غزة. لن أكون يوماً مروّجاً للتطبيع مع هذا الكيان ما دامت رموز المرحلة الحالية في الحكم – من نتنياهو إلى سموتريتش وبن غفير – تمثل وجهه الأكثر تطرفاً، وما دامت البيئة الأيدولوجية والسياسية والاجتماعية التي أنتجت هؤلاء قائمة. لكن رفض التطبيع لا يعني تبني منطق المغامرة الفردية أو تبرير القرارات غير المحسوبة التي تعيدنا دائماً إلى مربع الهزيمة.
دروس التاريخ واضحة، ولن تحجبها موجات الصخب والحماس الداعية إلى مواجهات جديدة ستنتهي بالفشل حتماً، فالنجاح يحتاج إلى بناء القوة الاقتصادية والتعليمية والسياسية والمؤسسية قبل أي مواجهة. تجربة الكيبوتسات مثال حي على أن المجتمعات المنظمة، التي تستثمر في التعليم والإنتاج والعمل الجماعي، تستطيع أن تبني دولة قوية قبل أي معركة. في المقابل، انشغل العرب بخطابات حماسية وقرارات مرتجلة، فكانت النتيجة أن خسروا المعركة قبل أن تبدأ، وأدمنوا الفشل.
اليوم، إذا أردنا مستقبلاً مختلفاً، علينا أن ندرك أن النصر لن يتحقق بالمغامرة الفردية، بل عبر بناء مؤسسات قوية، واقتصاد منتج، وتعليم متين، وقرارات مدروسة، ورؤية سياسية متكاملة. حينها فقط نستطيع أن نمتلك القرار، ونحقق التوازن بين الشجاعة والحكمة، بين المبدأ والمصلحة، وبين التضحية والمكسب، فأعدل القضايا قد نخسرها حين لا نأبه بالعلم والتخطيط والإعداد.
من نكبة 1948 إلى نكسة 1967 وصولاً إلى غزو العراق للكويت الذي صادف أمس، وقرار حماس في 7 أكتوبر 2023، ظلت القرارات المصيرية رهينة أفراد أو دوائر ضيقة، لا تخضع لنقاش مؤسسي ولا لتقدير حقيقي لتبعات الصراع، لكن الثمن الذي يدفع عام وشامل.
المشروع الصهيوني في فلسطين قبل 1948 كان يتقدم وفق تخطيط طويل المدى. ففي العقود التي سبقت إعلان الدولة، بنى اليهود في فلسطين الكيبوتسات كمجتمعات إنتاجية وزراعية وصناعية حديثة، وكانت هذه الكيبوتسات بمثابة مختبرات لبناء القوة، إذ وفرت تدريباً عملياً على الزراعة الحديثة، والتنظيم المجتمعي، والعمل التعاوني، وساهمت في إعداد كوادر عسكرية وفكرية قادرة على إدارة الدولة الوليدة. بهذه الطريقة، تهيأت الحركة الصهيونية لامتلاك اقتصاد متين، وبنية تحتية، وجهاز تعليمي وإعلامي، ومنظمات عسكرية سرية، حتى أصبح لديهم قبل إعلان الدولة فعلياً مؤسسات جاهزة لدولة كاملة. وعندما جاء 14 مايو 1948، كانت إسرائيل تمتلك جيشاً منظماً، واقتصاداً فاعلاً، وقيادة سياسية متفقة على هدف واحد.
في المقابل، دخل العرب حرب 1948 بلا قيادة موحدة أو خطة مشتركة، وكل دولة عربية اتخذت قرارها، وفق حسابات تخصها، دون أن يكون هناك مشروع عربي متكامل لمواجهة المشروع الصهيوني. هذا النمط تكرر في حرب 1967 حين اتخذ القرار العربي بالمواجهة من دون مؤسسات حقيقية تراجعه أو توازن القرار. وفي غزو الكويت عام 1990، قرر صدام حسين منفرداً إدخال المنطقة في كارثة تاريخية. وأخيراً، في 7 أكتوبر 2023، كررت حماس النمط ذاته، بقرار عسكري وسياسي اتخذته قيادة ضيقة بعيداً عن أي مؤسسات فلسطينية أو تشاور عربي، لتتحمل غزة وأهلها كلفة هائلة من الدمار والحصار والتجويع.
لسنا مضطرين للدفاع عن خيارات فردية أرهقتنا لعقود، ومنعت مجتمعاتنا من النهوض، وتسببت في خسارات اقتصادية وتنموية متراكمة، وأغرقتنا في سلسلة انكسارات نفسية وعسكرية. النقد الموضوعي لهذه الخيارات ليس انحيازاً لإسرائيل ولا تغطية على جرائمها، بل هو ضرورة أخلاقية وسياسية لحماية مستقبل شعوبنا من تكرار الأخطاء نفسها، أو في أقل تقدير محاولة وقف الخسارات عند نقطة محددة، قبل أن نفكر بالنهوض من جديد، ودعكم من محنطة «من لم يكن مع المقاومة فهو مع إسرائيل» فهذا الشعار يراد منه إجهاض كل محاولة للفهم بعيداً عن الشعبويات.
وحتى لا أكون صيداً لسهام المتأهبين في منصات التواصل الاجتماعي للانقضاض على أي رأي آخر، فأؤكد أن موقفي الشخصي واضح، وهو أن إسرائيل كيان مجرم مارس ولا يزال يمارس القتل الممنهج بحق الأطفال والنساء، وتجاوز كل الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية في حربه على غزة. لن أكون يوماً مروّجاً للتطبيع مع هذا الكيان ما دامت رموز المرحلة الحالية في الحكم – من نتنياهو إلى سموتريتش وبن غفير – تمثل وجهه الأكثر تطرفاً، وما دامت البيئة الأيدولوجية والسياسية والاجتماعية التي أنتجت هؤلاء قائمة. لكن رفض التطبيع لا يعني تبني منطق المغامرة الفردية أو تبرير القرارات غير المحسوبة التي تعيدنا دائماً إلى مربع الهزيمة.
دروس التاريخ واضحة، ولن تحجبها موجات الصخب والحماس الداعية إلى مواجهات جديدة ستنتهي بالفشل حتماً، فالنجاح يحتاج إلى بناء القوة الاقتصادية والتعليمية والسياسية والمؤسسية قبل أي مواجهة. تجربة الكيبوتسات مثال حي على أن المجتمعات المنظمة، التي تستثمر في التعليم والإنتاج والعمل الجماعي، تستطيع أن تبني دولة قوية قبل أي معركة. في المقابل، انشغل العرب بخطابات حماسية وقرارات مرتجلة، فكانت النتيجة أن خسروا المعركة قبل أن تبدأ، وأدمنوا الفشل.
اليوم، إذا أردنا مستقبلاً مختلفاً، علينا أن ندرك أن النصر لن يتحقق بالمغامرة الفردية، بل عبر بناء مؤسسات قوية، واقتصاد منتج، وتعليم متين، وقرارات مدروسة، ورؤية سياسية متكاملة. حينها فقط نستطيع أن نمتلك القرار، ونحقق التوازن بين الشجاعة والحكمة، بين المبدأ والمصلحة، وبين التضحية والمكسب، فأعدل القضايا قد نخسرها حين لا نأبه بالعلم والتخطيط والإعداد.