ديني

الحكمة من وقفة عرفة: مَن صدق في وقفته عاد كيومِ ولدَته أمُّه

الحكمة من وقفة عرفة: مَن صدق في وقفته عاد كيومِ ولدَته أمُّه

للعلّم - في صحراءٍ بيضاء ناصعة، تحت شمسٍ حارقة، وعلى جبلٍ واحد، تقف القلوب قبل الأجساد. إنها وقفة عرفة، قلبُ رحلة الحج، وخلاصة معانيها، وتاج شعائرها، كما قال رسول الله ﷺ: «الحج عرفة». من فاته هذا اليوم، فاته الركن الأعظم من هذا النسك الجليل.

إنها لحظةٌ فريدةٌ في التاريخ، تجتمع فيها الأرض والسماء على مشهدٍ يختزل الحكمة، ويكشف عن جمال الإسلام في أبهى صوره.

في هذا اليوم، نزل قول الله تعالى:
﴿اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا﴾
(المائدة: 3).
نزول هذه الآية في عرفة، لم يكن عبثًا، بل إعلانًا ربانيًا بأن الدين اكتمل، والنعمة اكتملت، والرحلة وصلت إلى منتهاها. لحظة توثيق للتمام، تُلزم القلوب بالشكر، وتُعيد للنفوس يقينها بثبات هذا الدين وعدله وسموّه.

لكن عرفة ليس فقط إعلانًا دينيًا، بل هو كذلك وعدٌ بالغفران. يومٌ تُعتق فيه الرقاب من النار، كما جاء في الحديث الشريف:
«ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة» (رواه مسلم).
هو يوم الميلاد الروحي، حيث يعود الإنسان إلى الله بقلبٍ منكسر، ويخرج من عرفة كما ولدته أمّه، صفحة بيضاء، خالية من الأوزار، محمّلة بالأمل.

ومن الحكمة البالغة، أن يُشبه هذا الموقف بمشهد يوم القيامة؛ لباسٌ موحّد، لا ألقاب ولا أموال ولا فوارق. تتجرد النفس من زخارف الدنيا، وتستشعر رهبة الحشر، فتخشع القلوب، وتعلو الدعوات، وتنكسر الكبرياء.

وهنا أيضًا، تتجلّى وحدة الأمة الإسلامية. ملايين من البشر، من كل فجّ عميق، لا تمييز بينهم بلون أو لغة، تذوب الفروقات في بحر التلبية والدعاء. يذوب الغني والفقير، العربي والعجمي، في لحظة أخوّة إيمانية، يعاد فيها تعريف الإنسان ككائن متساوٍ أمام الله.

أما القلب، فإنه يتربّى على التذلّلِ والخشوع لله. ساعاتٌ طويلة يقضيها الحاج في الدعاء والبكاء، تحت وهج الشمس وعرق الجسد، تعلمه الصبر، وتجعله يتذوق لذّة الافتقار إلى الله، لا من باب العجز، بل من باب العبودية الصادقة.

ولمن لم يُكتب له الوقوف بعرفة، فإن الله لم يحرمه من فيض هذا اليوم. فمن صامه نال من الأجر ما يكفّر عنه ذنوب سنة مضت وسنة قادمة، كما أخبر النبي ﷺ. ومن شارك بالدعاء، وجد أبواب السماء مفتوحة، لأن "خير الدعاء دعاء يوم عرفة"، كما قال الحبيب ﷺ.

في هذا اليوم أيضًا، تتردّد التلبية "لبيك اللهم لبيك"، فتنعقد العزائم على الطاعة والاستقامة بعد الحج، ويُروى القلب بنداءات الإخلاص التي لا تعرف التمثيل ولا التزييف.

أما من الناحية التنظيمية، فإن تحديد هذا اليوم بزمان ومكان مخصوصين، هو درسٌ في الانضباط الجماعي، والتعاون على البر، وإتقان الطاعة.

هكذا، تقف البشرية على جبل عرفة، ليُكتب في صحائفهم:
أنهم شهدوا لحظة كمال الدين، وعاشوا صفاء الغفران، وشهدوا وحدة الإنسان.

ومن صدق في هذه الوقفة، عاد كما لو أنه وُلد من جديد.
ومن صام أو دعا من بعيد، شرب من نبع الرحمة نفسها.