وجهات نظر

للموت مشهدٌ آخر!

للموت مشهدٌ آخر!


في قطاع غزّة يتساقطون؛ بعضهم قصفًا، وآخرون جوعًا، ليبدو الخيار الأول للغزيين أفضل بمراحل من الموت البطيء.

جوعٌ مزمنٌ، مستفحل في القطاع.

أجسادٌ فقدت قدرتها على الصمود، فتتهاوى في الشوارع، وتكثر حالات الإغماء، فيما حالات الموت جوعًا آخذة بالتزايد.

وآخر من مات جوعًا، طفلةٌ في عمر الأربع سنوات، ليرتفع إجمالي الأطفال المتوفين بسبب الجوع إلى سبعين طفلًا، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول 2023.

رَزان أبو زاهر، طفلةٌ فلسطينية، في الرابعة من عمرها، ضحية الجوع الحاد وسوء التغذية.

في وقتٍ يوجد فيه سبعة عشر ألف طفل يعانون من سوء التغذية في مستشفيات تفتقر إلى الأسرّة الطبيّة والأدوية الكافية لهذا العدد الهائل.

أكثر من مئةٍ وأربعين يومًا من الإغلاق الكامل للمعابر في غزّة؛ حصارٌ يدفع الفلسطينيون في القطاع ثمنه، الذي يمرّ بأسوأ مراحل المجاعة حسب برنامج الأغذية العالمي.

في مشهدٍ يعكس حجم المأساة، يواصل أهالي قطاع غزّة خطرَ الموتِ جوعًا، في ظلّ إصرار إسرائيل على منع دخول المساعدات الإنسانية منذ شهر آذار الماضي.

البيانات الرسميّة القادمة من القطاع كارثية:

استُشهد أكثر من تسعمئة شخصٍ أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء والبحث عن لقمة العيش في ظروفٍ بالغةِ القسوة.

واحدٌ من كلّ ثلاثة أشخاص لا يحصل على طعامٍ لعدّة أيام، والأطفال على رأس هذه المعاناة.

دقّت الأمم المتحدة ناقوس الخطر، حين كشفت أن نحو أربعمئةٍ وسبعين ألف شخصٍ على حافة الجوع الكارثي، بزيادة مقدارها نحو مئتين وخمسين بالمئة عن التقديرات السابقة، وفق وكالة الأونروا.

كمياتٌ كبيرة من المواد الغذائيّة الجاهزة للتوزيع لا تزال في مخازنها في مدينة العريش المصرية، دون السماح لها بالدخول إلى المحتاجين في غزّة، في ظلّ اتهاماتٍ لطرفي الحرب بالانخراط في مفاوضاتٍ لا نهائية، يدفع ثمنها الغزيون وحدهم.

سكان القطاع، الذين يناهز عددهم المليونين، دخل معظمهم في خانة الجوع الكارثي، وهي المرحلة الخامسة – والأعلى – في مؤشر الجوع العالمي، في ظلّ شللٍ تامّ في عملية إيصال المساعدات الإنسانيّة والطبيّة.

وكالة الأونروا بدورها حذّرت من تضاعف سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة، متّهمةً السلطات الإسرائيلية بتجويع مليون طفل في غزّة.

مصائدُ الموت تتعدّد في غزّة؛ من القصف، إلى الجوع، إلى أماكن توزيع المساعدات حتى؛ حيث استُشهد نحو سبعين فلسطينيًا أثناء انتظارهم المساعدات، قرب مراكز توزيع في خان يونس وشمال رفح.

تجاوز عدد الشهداء من منتظري المساعدات أكثر من ثمانمئة شهيد، منذ أواخر شهر أيار الماضي؛ خلال شهرين فقط، أي منذ تفعيل دور مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل.

أنّاتُ الجوع تصدح من جهة، وصفوفُ المفاوضين من حماس وإسرائيل تعلو من جهة أخرى. لكن، وللمرة الأولى، تتسم المحادثات بشيء من الإيجابية، وتتناول إمكانية إنهاء الحرب.

التقديرات تشير إلى إمكانية التوصّل لصفقة تبادل ووقف إطلاق نار خلال أيام.

المفاوضات عالقة حاليًا برد الطرفين على خرائط معدّلة قدّمها الوسطاء، لترسيم مناطق تمركز الجيش خلال هدنة الستين يومًا المفترضة، ومن ضمنها الانسحاب من محور موراغ الفاصل بين خان يونس ورفح.

تؤكّد حماس تعاملها بإيجابية مع الخرائط، مضيفةً أنها تنتظر رد الحكومة الإسرائيلية عليها قبل إعطاء موافقتها، مع احتمالية مطالبتها بتعديلات على بعض مواقع الانتشار.

الرد الإسرائيلي متوقَّع خلال اليومين المقبلين، وفي حال حُسم ملف الخرائط، سيتم الانتقال إلى عقدة أخرى متعلّقة بملف تبادل الأسرى، على أمل أن تسود الإيجابية المفترضة على طاولة المفاوضات.

في هذه الأثناء، تتواصل المجاعة التي تفترس الغزيين. الناس في القطاع يموتون ببطءٍ مرعب، وهم يتحسّسون لحم أجسادهم الذي يختفي أمام أعينهم، وعظامهم التي تبرز من شدّة الجوع.

أسواق قطاع غزّة فارغةٌ تمامًا من البضائع، يملؤها بطونٌ خاوية، ووجوهٌ نسيت ملامح الشبع، ما زالت تبحث عن ملاذٍ أخير للبقاء في مراكز المساعدات الأميركية.

لكنّ المساعدات لا تُوزَّع في هذه المراكز من أجل الحياة؛ بل تنصبُ فيها الكمائن، وتُزهق الأرواح في طوابير الجوع.

فالمساعدات، التي يُفترض أن تُنقذ، تُوزَّع تحت نيران القصف، وباتت فخًا يُحكم إغلاقه على من أنهكهم الحصار وأجاعهم الجيش الإسرائيلي.

إنها ليست نجدة، بل مشهدٌ آخر من مشاهد الموت المستمر في غزّة، فمئات الفلسطينيين فقدوا أرواحهم على أعتابها.

أمام الجوع، بكت الأمهات، وعجز الآباء أمام أبنائهم، وحتى المؤسسات الدولية وقفت عاجزة، فيما كان الجيش الإسرائيلي عائقًا أمام أداء واجباتها الإغاثية.

فأصبح القطاع غارقًا في أعمق أزمة إنسانية في التاريخ الحديث.

صار الغزيون يحلمون برغيف خبز، بعد أن تفشّت المجاعة، ولم تعد أيامهم تُحسب بالتقويم؛ بل بعدد الوجبات التي يتناولونها.

وصل الجوع في غزّة إلى مرحلةٍ مخيفة، وفارق فيها العشرات الحياة، وبعد أيام قليلة قد يموت الناس جماعات من شدة الجوع، بعد إعلان وصول القطاع إلى مرحلة المجاعة الكارثية.

من بين مليوني فلسطيني في القطاع، هناك مليون طفل معرّض للموت بسبب الجوع، حسب ما تقول الأنروا، منهم أكثر من مئة طفل يدخلون المستشفيات يوميًا بسبب سوء التغذية.

أربعة وسبعون ألف طفل فحصتهم الأنروا، بينهم نحو خمسة آلاف وخمسمئة حالة تعاني من سوء التغذية الحاد الشامل، وأكثر من ثمانمئة يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم.

وتواجه أكثر من ستين ألف امرأة حامل خطرًا حقيقيًا بسبب غياب الغذاء.

هزالٌ ونحافةٌ شديدةٌ.. هكذا تحوّلت أجساد الغزيين، التي صمدت أكثر من عشرين شهرًا في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. لكنها لم تقوَ على الجوع، فبدأت تنهار شيئًا فشيئًا.

العدّ التنازلي بدأ للموت، والجوع لم يعد يستثني أحدًا.

الجميع جائع؛ الأطباء يعملون بلا طعام، والمسعفون ينقلون المرضى وهم يعانون من نفس المعاناة، والمرضى أنفسهم لا يملكون ما يقوي أجسادهم.

الصحفيّون ينقلون الحقيقة، وهم في قتالٍ يومي من أجل البقاء.

الأطفالُ الذين لا ذنب لهم في أي نزاع، ينامون جوعى، ويموت بعضهم قبل أن تصل إليهم أي مساعدة.

بحسب تقارير رسميّة، أكثر من تسعة وستين طفلًا فارقوا الحياة بسبب الجوع وسوء التغذية، في مشهدٍ يعجز اللسان عن وصفه. كما تُوفي مئتان وستون شخصًا بسبب النقص الحاد في الغذاء والدواء، في ظلّ حصارٍ خانق يمنع وصول الاحتياجات الأساسية.

تُعلن وزارة الصحة الفلسطينية يوميًا عن أعدادٍ لا حصر لها من المواطنين، يصلون إلى أقسام الطوارئ منهكين ومرهقين، وأجسادهم ضعيفة إلى حدّ الخطر، وبعضهم يموت من الجوع.

على مدار اثنين وعشرين شهرًا، كانت المجاعة في غزّة. في هذا الركن المحاصر من العالم، ما يحدث ليس أزمة عابرة، بل كارثة إنسانية تتّسع كل يوم.

فأجسادٌ تنهار، وأطفالٌ يفارقون الحياة قبل أن تتاح لهم فرصة العيش.

ويبقى السؤال:

كم من الوقت سنكتفي بالصمت، وأهالي غزّة يصارعون الموت البطيء؟