وجهات نظر

مواقف وطرائف في ذكرى المؤسس

مواقف وطرائف في ذكرى المؤسس


لم تدرس مرحلة الملك الراحل، عبد الله الأول، بما تستحق لتناول كافة جوانب حياته السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأدبية، فقد كان شخصية متكاملة مميزة بالحكمة وسداد الرأي، ونظم الشعر، رغم أنه كتب مذكراته الشهيرة وشرح فيها جوانب من حياته، الاّ أن ما لم يكتب وعرفه عنه من عايشوه كثير ويستحق الذكر.

عاش عبد الله الأول ظروفاً صعبة وغاية في التعقيد مع ولادة الدولة الأردنية وصناعتها وقيادته للفكرة الى أن استوت على سوقها إمارة ثم مملكة وسط ظروف من تعقيدات عالمية بعد الحرب العالمية الأولى، وعشية الثانية، فقد استطاع أن يصمد وأن يناضل وأن يخلص الإمارة من براثن التوسع وأطماع الحركة الصهيونية وشمول وعد بلفور، كما استطاع أن يقنع الحلفاء الذين خدعوه وتنكروا لوالده أن تقوم هذه الإمارة وأن تكبر وتتحمل مسؤولياتها في الأمن والاستقرار، وان تكون جزءاً عاملاً وفاعلاً في منطقتها وبين دول العرب الناشئة في مرحلة الاستقلال، فكان من اوائل المؤسسين في الجامعة العربية، وايضاً ممن دخلوا بالعضوية الأردنية الى الأمم المتحدة.

وفي عهده أنجزت وحدة الضفتين انقاذا لما تبقى من فلسطين بعد النكبة عام 1948، وكان بطل تعديل المعاهدة عام 1936، مع بريطانيا وفجر الاستقلال عام 1946.

وكان شخصية مميزة في التفكير والتدبير وفي نسج العلاقات وكان حذراً شجاعاً غير متهور يؤمن بالعودة الى الحق ولا يذهب الى الباطل يصارح متى يجب ولا يسكت عن خطأ ويؤمن بالنقد والتقييم والتصويب.

أحب الأردن وعمل من أجله ووضع حجر أساسه منذ قدومه الى معان عام 1920، وتوجه بعدها الى عمّان في 2 / 3 / 1921، حيث وصلها يوم الأربعاء، الساعة العاشرة صباحا من زيزياء بالقطار ليستقبله الأردنيون فيخاطبهم من مكتب المحطة، (محطة القطار) ومن فوق مكتب مأمور المحطة ليقول لهم (أبقوا لي وجهاءكم) ثم بصوت أجش عاطفي عميق وسط تصيفق حاد من الحضور القادم من أنحاء المملكة وبحضور وجهاء الأردن وشيوخهم وقادتهم الأهليين، قال، والله ما جاء بي الاّ حميتي (غيرتي) ولو أن لي سبعين نفساً لبذلتها في سبيلكم.. أطيعوني، أطيعوني أطيعوني، قالها ثلاثاً ومسح دمعه بغترتة ومضى في خطبته القصيرة، ليقول إنما جئت لأبني وطناً.

لم يضيع لحظة واحدة، فقد كان الوقت ثميناً، إذ خرج الى ماركا ليستعرض القوة التي توفرت، ثم بدأ يبني الدولة الأردنية وسط تحديات كبيرة وكثيرة،

أحب الأمير عبد الله (الملك فيما بعد) الأردن والأردنيين، وقرب رجالاتهم واثنى على أفعالهم في الوقوف معهم واستقلال بلادهم، وقد اورث ذلك للملك الحسين طيب الله ثراه، والذي تأثر بالملك عبد الله وظل دائماً يعتبره جده واستاذه وملهمه، وقد قال الحسين كان لجدي عليّ فضل كبير، وقد رافقه في اصعب الرحلات، حين استشهد في ساحة المسجد الأقصى، وقد نجى الحسين الشاب بأعجوبة، وقد وصف الحسين خوف مرافقي جده، حين استشهد وقال، لقد هربوا مذعورين كالعجائز (كتاب مهنتي كملك).

أقام في قصر المصلى في الشونة الجنوبية، وقرب منه الشعراء والأدباء وساجلهم، وكان يذهب الى المدن والعشائر في كثير من الأحيان لزيارته على فرسه، فيستقبلونه وسط حفاوة ظل يذكرها.

ففي رحلة الى الكرك على فرسه المسماة (سبل) قال وهو في طريقه، على ظهرها الى الكرك

جهلت اليوم يا سبل

أمن زعل أم الطرب

عهدتك خير مركوب

عليه السرج واللبب

فسيّّري سير متئد

الى شيحان يقترب

الى شيخ عظيم الجاه

سيري نحوه خبب

رفيفان كريم الأصل

لا يثني له طلب.

وكان الأمير قد أهدى للشيخ رفيفان المجالي التميمي فرساً جميلة أصيلة، أسمها الحمامة، وهي عزيزة على الشيخ وقد حاول أولاده أن يحصلوا عليها، وقد توسطوا لذلك عند والدهم، وقد نظم ابنه دميثان قصيدة في الفرس، وبدات المباراة بين أولاده، فنظم أخوه رفيفان المشير لاحقاً، حابس المجالي قصيدة في الفرس (حمامة) قال فيها.

حمامتي حبيبتي....... يوم الوغى خيالها

عطية من سيدي...... نعم العطايا هداها

ما يعتلي سرجها ردي....ما دمت أنا خيالها.

ولكن رفيفان الذي أهديت له الفرس وجد أن ابنه صالح، لا راحلة لديه ولا يملك فرساً، فقال يا صالح، أركب هذه الفرس (الحمامة) واعتني بها، وبالفعل عرف ضمناً أن الفرس أصبحت لصالحه وبدأ العناية بها، وتروي الحادثة أنه بعد 12 سنة وحين كان صالح المجالي متصرفاً للسلط، أرسل الفرس مع أحد اقاربه، وعندما سار بها هذا الرجل ليردها الى الكرك توقف بها في المحطة بعمان ليرتاح قليلاً، وجد أن الفرس قد نزعت رأسها من المقود وعادت مسرعة الى الاسطبلات الملكية، حيث كان الملك عبد الله يتجول في الاسطبلات كعادته برفقة رئيس التشريفات الملكية، فسأله الملك، هل تعرف يا هزاع هذه الفرس التي اقبلت علينا، فأجاب بالنفي، فقال الملك، هذه الحمامة فرسي التي أهديتها لرفيفان، وقد عادت لتؤكد وفاءها ويا ليت الأشخاص يحملون الوفاء كالخيل، هذه الحمامة، وبعث الملك برقية لصالح بن رفيفان، الذي كانت الفرس في عهدته، يقول له فيها.

(مهدية نفسها مقبولة، ولكم منا بدلاً عنها سيارة.)

وقد كان ذلك وعادت الحمامة الى الاسطبلات الملكية.

كان الملك يداعب اصحابه وجلسائه في جلساته، ففي مرة كان يجالسهم، وقد جاءته هدية طبق من كعك التمر، أهداه له مرافقه محمد السعدي، وكان الملك يتناول طعام الفطور، فجاء ناصر الدين النشاشيبي وكان ترجمانا للملك، هو الصحفي المعروف ورئيس التشريفات الملكية فيما بعد،

وحين انشغل الملك مع أحد جلسائه، تناول النشاشيبي حبة من الكعك خلسة وقد لمحه الملك، ولم يعلق ولكنه أضمر ذلك على سبيل المزاح، وكان محمد الشنقيطي وضياء الدين الرفاعي، الذي كان قريباً من الملك وينتظرون قدوم الملك، قال الشنقيطي للرفاعي معاتباً، لقد لاحظت ورود اخطاء في القصائد التي يمليها عليك سيدنا، فكيف يسمح بذلك، وقبل أن يجيب الرفاعي دخل الملك، فوقف الجميع وكان الملك قد سمع بعض حديثهم، فقال للرفاعي، أمسك القلم وأكتب ما أملي عليك (وكعكة عملت بالتمر قد حشيت، يروق للآكل المقرور رؤياها،

يا أيها الشيخ، عفواً تلك كعكتكم،

كل الكعيكة وأشك حسن ملقاها، وبذكر ذلك فضحت عملة النشاشيبي الذي انكشف أمره وضحكوا جميعا..