وجهات نظر

هرطقات نتنياهو وما بعدها

هرطقات نتنياهو وما بعدها

في ظل حالة "جنون العظمة" التي يعيشها نتنياهو والتي سولت له العبث بالشؤون الداخلية لدول المنطقة، تنتهج حكومته المتطرفة سياسة إذكاء نار الفتنة عبر استغلال الانقسامات العرقية والدينية العميقة داخل المجتمع السوري، في سياق استراتيجية أوسع ترمي إلى إضعاف الدولة السورية وتعقيد أي مسار لإعادة الاستقرار فيها، ففي خضم الفوضى المستمرة منذ سنوات، تظهر مؤشرات على محاولات إسرائيلية لـ "رعاية" وتضخيم الخلافات بين مكونات الشعب السوري، وخاصة بين الطوائف الدينية كالسنة والعلويين والدروز والمسيحيين وكذلك بين العرب والأكراد.

الهدف المعلن من قبل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة هو حماية الأقليات المهدَّدة، إلا أن التحليل السياسي يكشف نية مبيتة خبيثة وخطيرة؛ إذ تشير المعطيات إلى محاولات إسرائيلية لتمهيد الطريق لتدخل مباشر أو غير مباشر في الشأن السوري تحت ذرائع مختلفة، وتعتمد هذه الاستراتيجية على المبدأ الكلاسيكي "فرق تسد"، سعياً لتحقيق أهداف استراتيجية تتلخص في منع قيام دولة قوية وموحدة يمكن أن تشكل تهديدا محتملا، وإطالة أمد الصراع لاستنزاف ما تعتبرهم إسرائيل خصومها الإقليميين، وإنشاء كيانات أو مناطق نفوذ طائفية أو عرقية ضعيفة وقابلة للتأثير الإسرائيلي، لا سيما في الجنوب السوري القريب من الحدود مع فلسطين المحتلة، وكل ذلك سيكون كفيلا بإزالة أي عائق أمام الأطماع الصهيونية التوسعية وخاصة ما يتعلق بما تسميه حكومة الاحتلال: "ممر داوود".

خطورة هذه المخططات لا تكمن فقط في انتهاك سيادة سوريا، بل في تفاقم أزمتها وتحويلها فعلياً إلى دولة فاشلة بالكامل، بما يعنيه هذا المفهوم من جعلها الحاضنة المثلى لنمو وانتشار المليشيات الطائفية والعشائرية والدينية مع ما يتبع ذلك من حروب وصراعات ستنشأ بدوافع الحماية الذاتية أو الطموحات السلطوية المحلية أو بدعم خارجي، لتصبح جميعها عوامل تفكيك دائمة للمجتمع وتعيق أيّ جهود حقيقية للمصالحة الوطنية وإعادة البناء، لكن الأمر الأكثر خطورة وتهديداً، هو تحول هذه المليشيات إلى لاعبين عابرين للحدود، بأجندات متنوعة قومية ودينية أو إقليمية ودولية؛ وبالتالي دخول المنطقة برمتها في حروب وصراعات لا تستثني أحداً.

هذا المشهد الكارثي يشكل تهديداً وجودياً لأمن واستقرار المنطقة بأسرها، فسوريا المفتتة والمليشياوية ستبقى بؤرة لجذب الأجندات العابرة للحدود سواء كانت متطرفة أو غير متطرفة، وتصدير عدم الاستقرار إلى جيرانها المباشرين كلبنان والأردن والعراق وتركيا، وهو ما يمكن أن يغذي الصراعات القائمة وينشئ بؤراً جديدة للتوتر، مما يزيد من مخاطر المواجهات الإقليمية الواسعة.

المفارقة أن إسرائيل نفسها لن تكون بمنأى عن تبعات سياساتها، فالمليشيات العرقية والدينية العابرة للحدود لا تميز بين أهدافها، ووجودها في جنوب سوريا يشكل تهديداً أمنياً مباشراً لإسرائيل، بل إن الفوضى يمكن أن تحول الأراضي السورية إلى نقطة جذب للجماعات التي تطمح بل وتتوق للدخول في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي لن تكون إسرائيل نفسها قادرة على مواجهتها أو كبح جماحها مهما بلغت قوتها وغطرستها خاصة إذا كانت المواجهة تحت مسمى الجهاد لتحرير الأقصى.

على صعيد المصالح الكبرى، فإن تحول سوريا إلى "صومال" او "افغانستان" الشرق الأوسط يتعارض مع مصالح القوى الدولية الرئيسية، فروسيا التي كانت تُعَدّ الحليف الأساسي للنظام السوري، تسعى لاستقرار يحفظ نفوذها واستثماراتها، والولايات المتحدة ودول أوروبا تدرك جيداً أن الفوضى والمناطق غير المحكومة هي حاضنات للإرهاب الذي يهدد أمنها القومي، كما حدث مع تنظيم "داعش"، كما أن الصراعات الطائفية المستدامة تعقد أي جهود دبلوماسية لحل الأزمة السورية وتزيد من احتمالات المواجهات بالوكالة بين القوى الاقليمية والكبرى على الأرض السورية.

باختصار، إن محاولات إسرائيل لزرع الفتنة الطائفية والعرقية في سوريا تعد خطوة جيوسياسية خطيرة، خاصة وأنها قد تسهم في تحويل سوريا إلى كيان فاشل يغذي نفسه بنار الصراعات الداخلية ويُنتج مليشيات متطرفة، وهو المسار الذي لا يهدد السوريين وحدهم، بل يهدد أمن جوارهم المباشر، ويخلق تحديات أمنية غير محسوبة لإسرائيل نفسها على المديين المتوسط والبعيد، ويعقّد مصالح واستقرار القوى الدولية الكبرى في منطقةٍ هي أصلاً على حافة الهاوية.

وعليه، فإن التصدي لهرطقات نتنياهو ومواجهة المخططات المجنونة والكارثية لحكومته تتطلب وعياً عربياً ودولياً بمخاطرها، ورفضاً قاطعاً لأي تدخل تحت شعارات زائفة، وإصراراً على حل الأزمة السورية عبر مسار سياسي شامل يحفظ وحدة البلاد واستقلالها ويقطع الطريق على كل مَن يسعى لتمزيقها، ومن ثم إدخال المنطقة في أتون حرب لن يستطيع أحد إيقاف نيرانها.