مجتمعات

الجمعية الفلكية الأردنية توضّح أهمية الفيزياء النووية بين الدمار والتنمية

الجمعية الفلكية الأردنية توضّح أهمية الفيزياء النووية بين الدمار والتنمية

للعلّم -
في وقت تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية وتتفاقم فيه التوترات الجيوسياسية على المستويات كافة، تبرز الفيزياء النووية كواحدة من أكثر فروع العلم حساسية وتأثيرًا في حاضر البشرية ومستقبلها، وفق ما يؤكده عمار السكجي، الفيزيائي النظري ورئيس الجمعية الفلكية الأردنية.

ويصف السكجي الفيزياء النووية بأنها علم يقف عند مفترق طرق حاسم بين الأمل والخطر؛ فهي من جهة تكشف عن قدرة العلم على تقديم حلول مذهلة لمشكلات الطاقة حول العالم، ومن جهة أخرى تسلّط الضوء على هشاشة التوازن الدولي في ظل التهديدات النووية المتزايدة.

ويوضح أن الطاقة النووية، من خلال التفاعلات المعقدة في أعماق الذرة، تُعد اليوم من أقوى مصادر الطاقة على الإطلاق، ويمكن أن تشكّل ركيزة مستقبلية للتنمية المستدامة إذا ما وُضعت في إطار الاستخدام السلمي المنضبط. لكن الوجه الآخر لهذه القوة يكمن في قدرتها على إحداث دمار هائل يتجاوز الوصف، كما أثبت التاريخ في هيروشيما وناجازاكي، وكما تهدد به السياسات النووية الحديثة في أكثر من ساحة إقليمية ودولية.

ويؤكد السكجي أن هذا التناقض الجوهري في جوهر الفيزياء النووية بين البناء والتدمير، يفرض الحاجة إلى رفع مستوى الوعي العام بمخاطر هذه التقنية ومنافعها، إلى جانب ضرورة ترسيخ مبادئ الشفافية العلمية، وتفعيل الرقابة الدولية الرشيدة والعادلة، وتعزيز التعاون بين الأمم، من أجل ضمان مستقبل آمن ومزدهر للبشرية.

ما هي الفيزياء النووية؟

أوضح السكجي أن الفيزياء النووية هي فرع من الفيزياء يهتم بدراسة نواة الذرة وتفاعلاتها، وتتضمن مفاهيم محورية، مثل الانشطار النووي، وهي عملية انقسام نواة ثقيلة (مثل يورانيوم-235 أو بلوتونيوم-239) إلى نواتين أصغر مع انبعاث طاقة هائلة.

أما الاندماج النووي، فهي اندماج نواتين خفيفتين (مثل الديوتيريوم والتريتيوم) لتكوين نواة أثقل، وهي التفاعلات التي تحدث في الشمس.

ويعرف النشاط الإشعاعي بأنه تفكك تلقائي لنوى غير مستقرة مع انبعاث جسيمات (ألفا، بيتا) أو أشعة غاما، فيما يقصد بـ "الإشعاع المؤين" بأنه إشعاع قادر على إزالة إلكترونات من الذرات، ويشمل النيوترونات، وأشعة غاما، وجسيمات ألفا وبيتا.

الأصول الكمومية للنظرية النووية

تمتد جذور الفيزياء النووية الحديثة إلى أعماق ميكانيكا الكم، حيث تمثل النواة نظامًا معقدًا تحكمه القوانين الكمومية أكثر من الكلاسيكية. لفهم سلوك الأنوية الذرية والجسيمات دون الذرية، تعتمد الفيزياء النووية على مجموعة معادلات ونماذج رياضية، من أبرزها:

معادلة شرودنجر: تشكّل العمود الفقري لنمذجة النظام النووي غير النسبي، وتُستخدم لحساب مستويات الطاقة في النواة والاحتمالات الكمومية لتواجد الجسيمات، وتمثل الأساس لفهم سلوك الجسيمات داخل وخارج النواة.

معادلة ديراك: تدخل في توصيف الأنوية ذات الطاقات العالية، وتدمج بين ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة، وقد سمحت بالتنبؤ بوجود نظير الإلكترون (البوزيترون).

مخططات فاينمان: أداة رسومية لحساب العمليات النووية مثل التحلل الإشعاعي، والتفاعلين القوي والضعيف، وتفاعلات الاندماج والانشطار، وتُستخدم ضمن نظرية الحقل الكمومي لتسهيل تمثيل المعادلات التداخلية.

الديناميكا اللونية (QCD): النظرية الأساسية التي تصف التفاعل النووي القوي بين الكواركات داخل البروتونات والنيوترونات، وتفسر سبب احتجاز الكواركات داخل الجسيمات المركبة، وتوضح كيف تتولد معظم كتلة النواة من طاقة الربط بين الكواركات وليس من كتلها الفردية.

وتشكل هذه النظريات إطارًا لفهم البنية الدقيقة للنواة، وآليات إنتاج الطاقة النووية، وتفاعلات التحول بين الجسيمات، كما تُسهم في تطوير نماذج المحاكاة الرقمية للمفاعلات النووية وأبحاث الاندماج، مما يجعل الفيزياء النووية في قلب الثورة العلمية الحديثة.

تسلسل زمني: من مانهاتن إلى طهران

يمثل تطور البرامج النووية العالمية انعكاسًا مباشرًا لتقاطع العلم بالسياسة، حيث لعبت الفيزياء النووية دورًا محوريًا في التوازنات الدولية منذ منتصف القرن العشرين. ويمكن تتبع التسلسل الزمني لهذا التحول الجيوسياسي عبر أهم المحطات:

1942–1945: انطلاق مشروع مانهاتن الأميركي، أول برنامج نووي عسكري، أدى إلى تصنيع أول قنبلتين ذريتين أُلقيتا على هيروشيما وناجازاكي عام 1945، ما تسبب بمقتل أكثر من 200,000 شخص.

1949: الاتحاد السوفييتي يفاجئ العالم بإجراء أول تجربة نووية ناجحة، ويطلق سباق تسلح نووي محموم.

1952–1960: المملكة المتحدة (1952)، فرنسا (1960)، ثم الصين (1964) تنضم إلى النادي النووي، معززةً مفهوم الردع النووي المتعدد الأقطاب.

1968: توقيع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، التي سعت للحد من الانتشار مقابل ضمان حق الاستخدام السلمي.

1974: الهند تُجري أول تجربة نووية تحت شعار "تفجير سلمي"، ما أثار مخاوف من تفشي التقنية خارج الدول الخمس المعترف بها.

1998: باكستان ترد بتجارب نووية بعد تجارب هندية جديدة، لتصبح شبه القارة الهندية واحدة من أخطر بؤر التوتر النووي.

1986: كارثة تشيرنوبيل تعيد رسم أولويات الأمن النووي عالميًا.

2003–2006: تصاعد القلق الدولي من البرنامج النووي الإيراني، مع تعثّر المفاوضات حول شفافيته وأهدافه.

2015: توقيع الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA) مع القوى الكبرى، يقيّد تخصيب اليورانيوم مقابل رفع العقوبات.

2018–2022: انسحاب واشنطن من الاتفاق وعودة العقوبات، تليها زيادة في نسبة التخصيب الإيرانية لتتجاوز 60%، ما يقرّبها تقنيًا من حدود التسليح.

2024–2025: تتواتر التهديدات الإسرائيلية والأميركية باستهداف منشآت نووية إيرانية، ما يعيد إشعال المخاوف من اندلاع صراع نووي إقليمي في الشرق الأوسط.

وفي خضم هذه المحطات، أجرت كوريا الشمالية تجارب نووية منذ عام 2006 رغم العقوبات، ويُشتبه بامتلاك إسرائيل ترسانة نووية غير معلنة، فيما يواصل المجتمع الدولي محاولاته للحد من الانتشار النووي عبر الدبلوماسية، والردع، والتقنيات الرقابية.

المنشآت في الشرق الأوسط

شهد الشرق الأوسط خلال العقود الماضية تصاعدًا ملحوظًا في النشاط النووي، سواء للأغراض السلمية أو ذات الطابع العسكري، مما جعله واحدًا من أكثر المناطق حساسية على المستوى النووي عالميًا:

ديمونا (إسرائيل): يقع في صحراء النقب، ويُعتقد أنه نشط منذ الستينيات. تشير تقارير غير رسمية إلى استخدامه لإنتاج البلوتونيوم لصنع الأسلحة النووية. إسرائيل لم توقّع على معاهدة NPT، وترفض السماح بتفتيش منشآتها، ما يعزز الاعتقاد بامتلاكها ترسانة سرية تُقدّر بـ 80 إلى 200 رأس نووي.

بوشهر (إيران): أول محطة طاقة نووية إيرانية، بُنيت بدعم روسي وتخضع لتفتيش وكالة الطاقة الذرية. رغم طابعها المدني، إلا أن قربها من مواقع تخصيب ومفاعل أراك جعلها في قلب النزاع.

نطنز وفوردو (إيران): منشآت تخصيب تحت الأرض تحتوي على أجهزة طرد مركزي متقدمة، وتعرضت لهجمات سيبرانية وعسكرية إسرائيلية وأميركية مؤخرًا.

أنشاص (مصر): مفاعل بحثي من أقدم المفاعلات في المنطقة، يُستخدم لأغراض علمية ويخضع لتفتيش دوري.

السعودية: رغم عدم امتلاك مفاعل نشط، أعلنت نيتها بناء مفاعلات سلمية، مع تقارير عن مشاريع بحثية واستخلاص محلي لليورانيوم.

الإمارات: دشّنت محطة "براكة"، أول مشروع نووي عربي لإنتاج الكهرباء تجاريًا، وتخضع لإشراف صارم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

كما توجد منشآت أخرى دُمّرت أو خرجت من الخدمة. ومع غياب معاهدة إقليمية لنزع السلاح النووي، تبقى المنطقة مرشحة للتصعيد، خاصة في حال حدوث خلل في توازن الردع أو استهدافات غير تقليدية للمنشآت الحساسة.

الانشطار أم الاندماج؟

يُستخدم الانشطار النووي حاليًا في المفاعلات والأسلحة، لكنه ينتج نفايات مشعة طويلة الأمد، فيما الاندماج النووي لا يُنتج نفايات طويلة العمر، لكنه يتطلب حرارة وضغطًا هائلين.

ومن الأبحاث الواعدة؛ ITER (فرنسا) وهو مشروع دولي لتجريب اندماج الديوتيريوم والتريتيوم، إضافة إلى مشروع NIF (الولايات المتحدة)، الذي أعلن عام 2022 عن نجاح أول تفاعل اندماجي بطاقة موجبة، ومشروع HL-2M (الصين)؛ الذي حقق حرارة تفوق 150 مليون درجة مئوية.

الاستخدامات السلمية للفيزياء النووية

وتتنوع استخدامات الفيزيا النووية السلمية؛ إلى الطب النووي ويتضمن التشخيص والعلاج باستخدام نظائر مثل Tc-99m، في الزراعة لتعقيم الحشرات وتتبع المياه الجوفية، في الصناعة لفحص اللحام وقياس الكثافة، وفي تحلية المياه من خلال استخدام حرارة المفاعلات النووية.

ومن المخاطر الإشعاعية؛ فإن التعرض الحاد يسبب التهابات، تلف الحمض النووي، وموت الخلايا، أما التعرض المزمن يسبب السرطان، العقم، والتشوهات الخلقية، وبعض النظائر تبقى مشعة لآلاف السنين.

وحول العالم أكثر من 13,000 رأس نووي تملكها 9 دول، فيما تواجه معاهدات مثل NPT وSTART ضغوطًا سياسية متزايدة، أما السلاح النووي، فهو أداة ردع فعالة، لكنه خطر دائم على البشرية.

تخصيب اليورانيوم: سلميا وعسكريا

يعرف تخصيب اليورانيوم بأنه عملية لزيادة نسبة اليورانيوم-235 القابل للانشطار، من نسبته الطبيعية البالغة 0.7%، ويُستخدم في 3–5% لتوليد الكهرباء في مفاعلات مدنية، 20–60% في مفاعلات الأبحاث، وأكثر من 90% لصناعة الأسلحة النووية أو غواصات الدفع النووي.

وتخضع منشآت التخصيب لرقابة صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، وغالبًا ما يُعد تجاوز التخصيب 20% مؤشرًا تقنيًا للاقتراب من مستوى الاستخدام العسكري.

الأردن والإشعاع: استعدادات استباقية

وفي ظل التوترات الإقليمية والمخاوف من تسرب إشعاعي عابر للحدود، أعلنت هيئة الطاقة الذرية الأردنية جاهزيتها الكاملة للتعامل مع أي طارئ نووي قد يؤثر على البلاد.

وتتضمن الخطة الوطنية توزيع أقراص يوديد البوتاسيوم (KI) على المواطنين إذا تجاوزت مستويات الإشعاع الحدود المسموح بها. وتعمل هذه الأقراص على حماية الغدة الدرقية من امتصاص اليود المشع، أحد أخطر النظائر الناتجة عن التسربات النووية، وتُعد إجراءً فعالًا لحماية الأطفال والنساء الحوامل.

وأكد السكجي أن هذا الاستعداد يعكس وعي الأردن بأهمية الأمن النووي الإقليمي، والتزامه بالبروتوكولات الدولية لحماية السكان والتخطيط للطوارئ.